مسائل في العشق من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

في تعريف العشق:

يعرّف شيخ الإسلام العشق بأنه"المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود"

وبهذا يمتاز العشق عن مطلق الحب، فإن العشق نوعٌ سيء من الحب، هو زائد عن الحد الشرعي، لأن الأصل في التفريق بين الأمور المحمودة والمذمومة عند المسلم هو الشرع، فالمحمود هو ما أباحه الشرع، والمذموم ما خالف الشرع.

العشق واليأس الاستشفائي:

"ومن في قلبه مرض الشهوة وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض والطمع الذي يقوي الإرادة والطلب ويقوي المرض بذلك بخلاف ما إذا كان آيسا من المطلوب فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه فلا يكون مع الإرادة عمل أصلا بل يكون حديث نفس إلا أن يقترن بذلك كلام أو نظر ونحو ذلك فيأثم بذلك." 

فالأمر يبدأ بتصور فاسد في ذهن مريض القلب، يتصور المعشوق على حالة أكمل من حاله الواقعية، وهذا الكمال المزعوم قد لا يكون صفة ذاتية له بل اعتقاد أنه أكمل من غيره في وجه من الوجوه، وهذا الاعتقاد قد يكون واعيًا أو غير واعٍ.

ولأقرب الأمر أكثر:

يقول شيخ الإسلام في نفس الرسالة: 

"وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفان عن العشق: (أحدهما إنابته إلى الله ومحبته له فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه. 

والثاني خوفه من الله فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه وكل من أحب شيئا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه إذا كان يزاحمه وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب فإذا كان الله أحب إلى العبد من كل شيء وأخوف عنده من كل شيء لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلا عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكلما فعل العبد الطاعة محبة لله وخوفا منه وترك المعصية حبا له وخوفا منه قوي حبه له وخوفه منه"

فنرى هنا أن الأمر أشبه بالمقارنة والنظر في المصالح والمفاسد، التصور الصحيح هو أن محبتك لله وخوفك منه أكبر وأغلب من محبتك لغيره ومخافتك منه، أما من يحصل عنده سوء تصور فإنه يتصرف وكأنه يرى أن البعد عن معشوقه أخوف له وأضر عليه من غضب الله، وأن حب الله سبحانه المستلزمة لطاعته غاية الطاعة في كل مقدور للعبد لا تغني عن محبة المعشوق شيئًا، وهذا تصور فاسد عن المعشوق ووضعه في محل أكبر بكثير من أن يكون فيه مخلوق.

وهذا أحد أوجه مرض القلب لدى العاشق، فيبدأ الأمر بسوء في التصور (مفهوم خاطئ) ثم إلى (شعور خاطئ) وهو المحبة المبالغ فيها لهذا المعشوق، ثم إلى سلوك خاطئ وهي معصية الله لأجل التقرب منه.

وهنا يأتي حل الشيخ، وقد وقفت عليه في كلام بعض أطباء النفس وكانوا يسمونه "اليأس الاستشفائي"

يقول الشيخ إن هذا الشعور الفاسد تجاه المعشوق وهو محبته المبالغ فيها ينشئ في نفسه طمع كبير للوصول إليه، وقد يعشق الرجل جنس النساء لا امرأة واحدة! وهذا كثير، فيكون لديه طمع دائم في الوصول إليهن، ومن هنا حذر الله سبحانه النساء من أن يخضعن في القول أو غير ذلك مما يُطمع من في قلبه مرض لوجود باب في الوصول يفتح الأمل عنده، فإن الإنسان لا يريد شيئًا يدري عدم تعلق قدرته به، بل يستسلم له حال يأسه من التغيير، فهل أحد منا يستيقظ صباحا ليقول اليوم أريد أن أصبح ملك وسأفعل كل شيء لأصبح ملك هذه البلاد؟! أبدا هو يدري استحالة أن يصل الملك في هذا اليوم لذلك لن يخطر هذا على باله أصلًا.

بل كثير منا يكون مرضه وشقائه الأمل! 

فمتى وجد الأمل قويت الإرادة وزاد الطمع، وزاد الشوق إلى الوصول ومعه ألم تأخر الوصول والحسرة على ذلك.

فالحل هو اليأس، أن تقطع كل طريق إلى ذلك المراد الفاسد حتى يخرج من حيز مقدورك، وحينها ستكون مجبرا على أن تتخلى عن إرادة الوصول وعن اعتقاد إمكان الوصول أصلا، فهنا تبدأ بالسلوك

تقطع كل سبيل يمكن أن يوصلك إلى معشوقك، وتمسح كل ما يمكن أن يذكرك به، وثم تتحمل كل ألم يمكن أن يصيبك في الفترة التالية لعلمك بعجزك عن رفعه وأنه ضروري للشفاء ومتى استيقن القلب واعتاد على اليأس من هذا المراد زال منه طلبه وعلم أنه لا حاجة له بمستحيل.

ومع هذا العلاج السلوكي، يأتي العلاج المعرفي، بتذكر الله سبحانه وأنه يغني عن هذا المحبوب وأن هذا قدره الذي يجب الرضى به وأن فيه كل الخير عند الرضى، وأن حب الله سبحانه فوق كل شيء من كل وجه وفي كل اعتبار فيه كل الخير والصلاح في الدين والدنيا والآخرة، وأن الله يغني عباده عمن سواه وأن من يتقي الله يجعل له مخرجًا، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، يتفكر المرء التفكر الشرعي بمعاني القضاء والقدر وصفات الله سبحانه وتعالى وكماله، فيصغر في عينه كل مخلوق ويعمل بموجب ذلك بما يثبت حضور هذه المعاني في نفسه.

هذا والله أعلم 

الهامش---

لقراءة كلام شيخ الإسلام كاملًا:

- مجموع الفتاوى [العاشر - علم السلوك]

صفحة: 130

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق