المشاركات

باب في العقول التي كادها باريها سبحانه

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية:

"فإن الإشراك قد ضل به كثير من الناس كما قال الخليل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس [إبراهيم 35-36] وإذا شرح الله صدر العبد للإسلام يتعجب غاية العجب ممن ضل عقله حتى أشرك كما روي أن بعض الناس قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لهم عقول يعني لمشركي قريش فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم عقول أمثال الجبال ولكن كادها باريها وروي أن خالد بن الوليد لما هدم العزى وكانت عند عرفات قال يا رسول الله عجبت من أبي وعقله كان يجيء إلى هذه العزى فيسجد لها وينسك لها ويحلق لها رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك عقول كادها باريها ولهذا يعترف المشركون بالضلال يوم القيامة كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] قال تعالى عن قوم عاد الذين كانوا من أعظم بني آدم وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {26} [الأحقاف 26]"

----

قلت: فأنت ترى الذكي العبقري يعبد البقر وقد يصدق بأعجب الخرافات والسفسطات، فكيف تجتمع فيه شدة الذكاء مع اختيارات وآراء بعيدة كل البعد عن العقل السليم؟

أولا لا عجب أمام قدرة الله سبحانه فإن تغافل الرجل عن الحق واستعمل ذكائه في أمورٍ دنيوية ولم يكلف نفسه أن يلتفت ولو لحظة واحدة لمعرفة الحق بصدق في الأسئلة الوجودية الكبرى، فلن يكون ذكائه هذا إلا حجة عليه إذ أعرض عن الحق مع تمكنه منه فهذه أول مكيدة وهي أن يظن نفسه على شيء لذكائه، فمن الفلاسفة من يمني نفسه بأن الحق لا يمكن أن يكون مع بعض العرب الهمج المتخلفين حضاريّا وبعضهم هو رأس في قومه وبعضهم يرى أن هذه أساطير الأولين بادي الرأي لمخالفتها للعلم الحديث (الذي هو نفسه مقلدا في أصوله وفروعه) ولا يحاول حتى أن ينتبه لما دخل عليه من مسلمات ميتافيزيقية غيبية هي أبعد عن العقل مما يسميه أساطير الأولين، وكثير من هذه الشبهات والأهواء التي تحجب العقل عن أن يوضع في محله الأهم وهو البحث عن الحق في أعظم قضية وجودية وهي لماذا نحن هنا وكيف نعبد خالقنا الذي برأنا وهو لا شك مستحق للعبادة وماذا يريد منا طالما أنه خلقنا كائنات ذات إرادة وعقل تقبل الأمر والنهي وتحتاجه غاية الحاجة.

ونحن أنفسنا أحيانا على شدة ذكاء الواحد منا في بعض مناحي حياته يتصرف التصرف الغبي ويتخذ القرار السخيف أو يتغافل عن الأمر العظيم ويسوفه ويصر على التغافل مع علمه بالعاقبة الوخيمة وأهمية الأمر، فكيف بمن تغافل عن أعظم المطالب.

فمن يترك الصلاة بالكلية تسويفًا وهو يعلم أنه لو مات فهو كافر يساوي المشرك في المنزلة مثلًا.

فهذا معلومٌ مشهود حتى في بعض أحوالنا أنفسنا فلا عجب أن تتعاظم هذه الغفلة في حق الكافر الأصلي الذي ولد وتربى بين المشركين.

هذا والله أعلم 

#الغيث_الشامي


إرسال تعليق