في أخلاق المجد

 


مرة أخرى مع فلسفة الأخلاق، كنا قد ذكرنا سابقًا الأخلاق الانفعالية العاطفية، وأخلاق العار، وهذه المرة سنذكر نموذج أخلاقي سائد مجتمعيّا وهو أخلاق المجد، وهذا النوع من الأخلاقيات تضعه المجتمعات الجاهلية بشكل بديل عن الدين كنوع من إضفاء معنى لحياة أفرادها ويكون هذا المعنى ناشئًا عن الجماعة، فمثلًا تستخدمه الدولة القومية في العقيدة العسكرية للجنود.

فإن الموت في سبيل الوطن سيخلد ذكر الشهيد ويعطيه المجد بعد موته، لكن حقيقة الأمر أن هذه ليست مكافئة دنيوية مناسبة لشخص ضحى بحياته لأجل أن يدافع عن أهله وأرضه، فهذا المجد أغلبه مجد معنوي محض وحتى هذه التجربة المعنوية لن يعايشها حيال موته! (إن تكلمنا خارج إطار الدين)

والعجيب أن المجتمات تصطبغ بصورِ من صور أخلاق المجد حتى تضحي داخلةً في عاداتها وتقاليدها وتسري في عروقها، وإذا دمجت أخلاق العار مع أخلاق المجد خرج لك مجتمع جاهلي حرفيّا، فأخلاق المرء دائرة بين دفع ضرر العار، أو جلب منفعة المجد، فهي أخلاق نابعة من العرف الاجتماعي المحض وليس من النظر العقلي في مدى جدوى نفس الفعل ومدى حسنه وقبحه فعلًا بالنظر للمعطيات الواقعية المتغيرة والمتعلقة بكل قضية بحسبها، ولا عائدة لشرع حاكم ولا ثواب وعقاب آخروي ولا حكمة إلهية تبرر عدم المسائلة!،  بل ليس إلا دفع عقاب العار، أو ثواب خلود ذكرك في هذه الجماعة (المجد)

والعجيب أن بعض المجتمعات الإسلامية حتى بعد أن من الله عليها بشريعة أخلاقية معللة غائيّا بشكل كافِ من جهة الثواب والعقاب، ومفصلة جدا من جهة الأمر والنهي وتغني عن التقدير الفردي لحسن الأفعال وعواقبها بل عبثية عواقب بعض الصفات الكمالية، فمثلًا المسلم الشجاع الذي يحارب ببسالة هو شهيد، بينما الجاهلي الشجاع الذي يحارب ببسالة ليس له مكافئة سوى تخليده ببعض الأشعار وفعليا لو بقي حيّا لكان ذلك أنفع له بكثير على معيار دنيوي محض.

ويحضرني قصة أن بعض الدعاة كان ينصح شخص بأن لا يحرم ابنته من الميراث وأن هذا مخالف للشريعة الإسلامية فقال له، أنا احترم الشريعة والقران على رأسي وعيني، ولكن لا يصح إلا الصحيح! وهذه عاداتنا وتقاليدنا.

فعليّا العادات والتقاليد عندما تصبح حاكمة على الدين وفوقه وأقوى سلطة منه تصبح هي الفلسفة الإلحادية الأقوى في مواجهة الأخلاق الدينية، لكن الملحد غالبًا لا يحتج بها لعلمه بسذاجة كثير من مخرجاتها وكونها غير قابلة للنقاش العقلاني وإعادة النظر (خلاف ما يزعمه لنفسه ويحب أن يوصف به بين الناس)، فهي تسليم عبثي محض لما كان عليه الآباء، والذي يجعلها أقوى من سائر الصياغات الأخلاقية الفلسفية الأخرى هو كون الناس تلتزمها بشكل فوق قانوني، وأنهم لا يسائلونها بل هي ضابطة للمجتمعات بقوة فلن يقع بفخ النسبية واختلاف النظرات الأخلاقية داخل المجتمع الواحد، لأن المحافظين على العادات والتقاليد طاردين لأي تغيير، وكذلك لأنها تعطي معنى حياة للناس خارج الدين، لكن كما ترون، هي كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولم تعد صالحة للمجتمعات المعاصرة اذ أصبحت خليطًا من اثنيات وعرقيات وأديان مختلفة وبسبب الهجرات الكثيرة أصبحت العادات والتقاليد سائلة أكثر وبدأت تتلاشى قوتها، وأصبحت السيادة للقانون والديموقراطية (والتي عليها انتقادات كثيرة) سنأتي لها لاحقًا.

وللأسف انتشر مصطلح "محافظ" بين الناس للتدليل على أنه مازال ملتزم دينيّا، وحقيقة هذا المصطلح أنه لا يدل على ما يدل عليه مصطلح المتدين بل معناه المحافظ على العادات والتقاليد! فالفتاة لا تكون محافظة إذا ارتدت الحجاب، بل متدينة!، على أية حال، غالبًا ما يبرر المحافظين تمسكهم بالعادات والتقاليد أن بقائها حتى الآن عبر كل هذه الأجيال دليل على أنها نافعة، ولا يخفاكم سذاجة هذه الحجة الشبيهة بحجة الانتخاب الطبيعي عند الدراونة : ) فلن أطيل في دحضها حاليّا.

#الغيث_الشامي

#التحسين_والتقبيح

#فلسفة_الأخلاق

إرسال تعليق