أبتدئ الكلام بكلام الإمام السلفي الحبر ابن قتيبة رحمه الله ورضي
عنه وهو من تلاميذ الإمام اسحاق بن راهوية وابو حاتم الرازي رحمهما الله. (غفر الله لمن كان سببًا في جهل كثير منا بهذه الأسماء).
حيث قال:
"وإنما صار [القدر] سراً لأنك ترى قادراً وهو عاجز، ومؤيداً وهو ممنوع، وترى حازماً محروماً، وعاجزاً مرزوقاً، وشجاعاً مخذولاً، وجباناً منصوراً، وعاقلاً لا يستشار في الأمور ولا يستعمل، وساقطاً متهافتاً لا يُعطَّل، وعالمين متقاربين في العلم والنظر في الدين خصمين وهما مختلفان، فهذا يقول بالإهمال المحض وذاك يقول بالإجبار المحض وهذا حروري وذاك رافضي وترى أعداء الله يدالون أولياءه حتى يقتلوهم كل قتلة ويمزقوهم كل ممزق.
وترى الناس أصنافاً في التفضيل فمنهم قوم ابتدأهم الله بالنعم وأسكنهم ريف الأرض وأكرمهم وأخدمهم وحَسّن وجوههم وسقاهم العذب النقاح ورزقهم من الطيبات وأطعمهم من كل الثمرات ووفر عليهم العقول والأفهام وفتق ألسنتهم بالحكمة وألبابهم بالعلم وبعث فيهم بالقرب منهم الرسل لأهل هذا الإقليم الذي أسكنناه الله بفضله.
ومنهم قوم أنزلهم أطراف الأرض وجدوبة البلاد وأذلهم وأعراهم وشوه خلقهم وسقاهم الملح الأجاج وجعل أقواتهم الحشرات والنبات وسلبهم العقول وباعدهم من مبعث الرسل ومنتهى الدعوة فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ثم جعلهم لجهنم حصيباً ولسعيرها وقوداً كصنوف كثيرة من السودان وأصناف من الأعاجم ويأجوج ومأجوج فهل لهؤلاء أن يحتجوا على الله بما منح غيرهم ومنعهم؟
لا لعمر الله ما لأحد عليه حجة ولا قبله حق ولا فيما خلق شرك بل له الحجة البالغة، وهو الفعال لما يريد.
وعدل القول في القدر أن تعلم أن الله عدل لا يجور: كيف خلق، وكيف قدر، وكيف أعطى، وكيف منع، وأنه لا يخرج من قدرته شيء ولا يكون في ملكوته من السموات والأرض إلا ما أراد وأنه لا دين لأحد عليه ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل، وأن العباد يستطيعون ويعملون ويجزون بما يكسبون، وأن لله لطيفة يبتدئ بها من أراد ويتفضل بها على من أحب، ويوقعها في القلوب فيعود بها إلى طاعته ويمنعها من حقت عليه كلمته فهذه جملة ما ينتهي إليه علم ابن آدم من قدر الله عز وجل وما سوى ذلك مخزون عنه." انتهى كلامه رحمه الله
- في كتابه الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة ص35.
قلت: فحقيقة الأمر أن لله ما أخذ ولله ما أعطى، ليس للعبد حق على الله إلا ما أعطاه إياه الله بفضله، فليس لأحد غير الله أن يسلب منه هذا الحق، فإن سلبه إياه أحد من الخلق بغير حق من ربه كان مجرمًأ يستحق العقوبة بعدل الرحمن، وإما إن سلبه أحد العباد شيء بحق من الله وجب أن يقبل قدره ويذعن له ويصبر.
فهل يقال لله إن سلب أحدٌ من خلقه حياته في حادث أو مرض، لماذا يارب أمته ؟ كلنا ميتين، والله كتب الموت على كل عباده بأي طريقة شائها، بزلزال أو حادث أو مرض، أو في الفراش، أو بقتل أو تفجير أو تقطيع أو حرق.
كلها طرق للموت، وتعددت الطرق والموت واحد مكتوب على كل العباد ولو كانوا في بروج مشيدة، فالله أعطاهم الحياة بلا مقابل ولم يدفعوا أموالًأ مقابلها، ونفوسهم ملكه ينفخ الروح في اجسادهم متى شاء بلا اذن منهم ويصورهم ويعطيهم اشكال واموال بلا اذن منهم ثم يقبضها منهم ويسلبها وهي ملكه يتصرف فيها بحكمته وعدله كما شاء، فهو نعم لا يعذبهم بغير ذنب سبحانه وهذا مقتضى العدل، لكنه يبتليهم بالألم والعذاب لا على وجه المجازاة على شيء لم يقترفوه إنما على وجه الابتلاء والاختبار وله ذلك، ولا يفعله عبثًا بلا حكمة، ولا يجازيهم على صبرهم ورضاهم بغير ما يستحقون من الثواب، فهو يضع الشيء في محله اللائق به ويعطي كل ذي حق حقه، بل ويضع الحقوق الشرعية في مكانها اللائق بها من جهة الحكمة، فلا يدخل الجنة من كان حقه أن يدخل النار ولا العكس، وكل ذلك بفضله وعدله، وليس لنا أن نسأله عما نفعل كما نعقل من أفعالنا نحن المخلوقين ونسأل.
وكذلك كما أنه أعطاك حق الحياة وسلبه منك في حادث أو ما شابه، أعطى بعض الناس حق الحرية وسلبهم إياه في العبودية ولا فرق، وجعل لهم حقوقًأ وهي عبيد أقل من حقوق الحر ولا شك، كما أنه أعطى قوة ومالًأ لبعض عباده ولم يعطيه لآخر، وكلها فضل منه لم تدفع أنت مالًا مقابلها، وكل عباداتك باستخدامها أصلًأ وهي شكر للمنعم على أدوات العبادة هذه وشكره بأقل مما يستحق ولن تطيق أصلًأ ما يستحق إنما تسدد وتقارب حتى لا تبخسه حقه عليك فتستوجب العقوبة.
والله يبتلي الخلق بعضهم ببعض سواء كانوا جمادات أم أحياء وسواء بحق لهم أو بغير حق بعضه قدر شرعي وكله قدر كوني.
تطلب منه أن يرفع عنك الشرور والآلام وأنت صابرًأ على استمرارها محتسبًأ راجيًا رحمة ربك، واثق أنه لن يحملك ما لا طاقة لك به، تسأله أن يحييك ما علم الحياة خيرًا لك ويميتك ما علم أن حياتك شرًا لك فيها ما لا تطيقه.
تكفل برزقك وأنت حي كرمًأ منه بما يضمن استمرارك بالحياة حتى يأتي أجلك فيتوقف رزقك كيفما كان فتموت.
واعلم رحمك الله أن شر فتنة فتن بها البشر هي فتنة محاكمة القدر للقياس فكما قدر الله على إبليس أن يمد في عمره حتى يرى آدم يخلق أمامه بضعفه وعجلته ثم يؤمر هو والملائكة العظام أجمعين بالسجود له فلا يحتمل ذلك عقله وقياسه فيكفر بالله ويظهر جحوده وكبره، فكذلك يتحاسد الناس فيما بينهم، فيخرج الخارجي منهم ويسرق السارق منهم ويقتل القاتل منهم ويزني الزاني منهم بحليلة جاره وامرأة غيره وإلى آخره.
هذا والله أعلم
#الغيث_الشامي