اعتراض على الفلسفات الأخلاقية الإلحادية

 


اعتراض لا أراه يذكر عند الرادين على الملاحدة كثيرًا على الرغم من أهميته:

معظم المحاورين عندما يناقشون ملحدًا حول مرجعيته الأخلاقية يركزون على كونه لا يملك مرجعية أخلاقية 

وعندما يذكر لهم أحدَ النظريات الأخلاقية الفلسفية يكعون معه في محاولة إبطالها، ويغرقون في جدل عميق حول تحرير مصطلحات النظرية ومدلولاتها وأدلتها وغير ذلك.

وربما ذكيهم يلتفت أنه فقط يحتاج أن يسأله عن مدى إلزامية هذه النظرية بالنسبة لفيلسوف آخر لديه نظرية أخلاقية مختلفة 

وأنني لست مضطر أصلا لفهم هذه النظرية التي تقولها، بل كوني لا أفهمها هذا يزيد مشكلة الملحد سوء، لماذا؟

لأن النظريات الأخلاقية الفائدة منها أن تكون ملزمة للمجتمعات، لا فائدة من نظرية أخلاقية معقدة جدا (على فرض صحتها) لا يفهمها إلا الفيلسوف الذي وضعها وبعض أصحابه (على نزاع بينهم في تحريرها أصلا) كما يحصل بين الكانطيين مثلًا.

فنعم هذا المسلك صحيح لكنه ليس كل مافي الأمر

بل لك أن تزيد الأمر سوء بجره إلى فخ النسبية، فالملاحدة ليسوا كلهم على موقف واحد من العقل البشري، وفوق ذلك الفلاسفة (الذي يعظمهم الملحد من حيث أنهم خارجين عن دائرة التفكير الديني والتقليد الديني) بالذات المنظرين للبدائل اللادينية.

وحتى لو كان متناقضا صاحب موقف اعتباطي ويختار إطلاقية بعض المضامين العقلية فليس له أن يلزم غيره بأن يختار موقفه الفلسفي نفسه بل ولا أن يقتنع بما يقتنع به هو

فلك أن تقول له تمام هب أن شخصا كابر أدلتك، فهل هو عندك يستحق العقاب لكونه لم يقتنع بأدلتك؟ فإذا ماذا فرقت عن المطالبين بحد الردة؟ 

أنت مجبر أن تخرس وتقول الأنظار نسبية وما يقنعني أنا لا يقنع غيري

فهذا الحال بينك وبين غيرك من أصحاب النظر الفلسفي

فكيف بالعامة؟! 

هناك فرق بين أن تقول أن البشر جميعا "يجب" أن يلتزموا بنظريتي الأخلاقية فهي الصواب وهي البديلة عن الدين والكافية (تنظير معياري Normative)

وبين أن يكون البشر بالفعل ملتزمين لنظريتك جميعا (تنظير وصفي Descriptive) 

وليس لك أن تزعم أن المخالف لنظريتك في الأخلاق هو مختل سلوكيا أو عقليا فهذه مصادرة على المطلوب

فتعريف السوية الأخلاقية نفسه منتزع من نظريتك وهو جزئها.

فهذه الطريقة تعتبر Meta ethics أي تنظير ما فوق أخلاقي، فأنا غير مضطر أن أنازع الملحد في نظريته المعينة وأن أكون ملما بتفاصيل كل النظريات الأخلاقية وملم بالردود عليها حتى أستطيع أن أرمي كلامه في الحش وأقول له كل ما تقوله إن لزمني أنا فلن يلزم الجميع وإن لزمهم عقلا فواقع الأمر أنهم لا يلتزمونه، ومدار الأخلاق على السلوك وتفعيل النظرية لا على كونها حبيسة عقول بعض الأذكياء الذين يعدون على الأصابع.

والأخلاقيات الدينية بسيطة تعطي نظرة سهلة  فطرية للوجود والأخلاق بالذات الإسلامية منها (ونزعم أن كل أخلاق خارج الإسلام فهي لا تفيد نجاة صاحبها على أية حال لكن هذا خارج محل البحث.)

ولنطبق هذا عمليا

لو جائك ملحدُ يقول لك أن الأخلاقي هو ما يؤدي للسعادة، والإنسان كائن اجتماعي، فحتى ينتفع ويحصل السعادة الكبرى من كونه في جماعة فلا يحصلها إلا إذا قدم مصلحة الجماعة على مصلحته.

فلك أن تقول له: تمام، سلمنا لك كل ما تقول، فهذا تنظير معياري، لكن الوصفي الواقعي مختلف، ففي الواقع هناك جماعات مختلفة لها اهداف مختلفة ومصالح مختلفة، وقناعات مختلفة ومنهم من لايقبلون نظريتك هذه، فهل ستجلس تناقشهم واحدا واحدا وتشرح لهم نظريتك؟ 

التنظير الفلسفي بحد ذاته كفكرة من مبدأ الأمر سيفشل في أن يكون بديلا للدين، بالذات أن تقدير المصالح والمفاسد قد يختلف من شخص لاخر فمن الناس من هم اغبياء ولا يدركون مفاسد خداع الجماعة وقد يخدعون الجماعة لفترة طويلة ولا يكتشفون ويضرونها ضررا عظيما وقد يكونون طغاة اقوى من الجماعة فيسخرون الجماعة كلها لهم.

فالواقع أعقد بكثير من أن تناقشني في صحة نظريتك من حيث هي نظرية فلسفية، بل الكلام كيف يمكن أن نستفيد منها واقعيا،

فالبشر حتى مع علمهم بوجود الآخرة التي لا يفلت منها أحد وعقابلها عظيم جدا جدا فكثير منهم لا يرتدع فكيف إذا أخبرتهم أن هناك احتمال كبير أن لا يتم اكتشافك وأن الأمر فقط يعتمد على تقديرك للمصالح والمفاسد للجريمة فإن قدرتها بشكل يخالف عقل الفيلسوف الفلاني وبشكل يمكمك أن تفلت من قوة القانون (الاعتباطية فلسفيا لانها تفرض نفسها على الناس بالقوة لا بالاقناع) فاذا أنت مبرر بالنسبة لأخلاقك الخاصة حتى مع كونك غير مبرر بالنسبة لفلسفة فلان الأخلاقية.

ثم هب أن شخصا اقتنع بالنظريات اللا أخلاقية أو اللامعيارية أخلاقيّا أصلا فهو لا أخلاقي بهذا الاعتبار، اي باعتبار "العدم والملكة" كما يصطلح على ذلك فلسفيا ، فهو غير مقتنع بوجود شيء اسمه معايير أخلاقية فضلا عن أن تصفه بأنه فاسد أخلاقيا وفق أحد المعايير، أو أنه لا أدري لا اكتراثي أخلاقيا، فما التثريب عليه؟

هذا والله أعلم

#التحسين_والتقبيح

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق