الفلسفة الطبيعانية، هل هي حقّا مادية؟

 مقالة في كشف مثالية الفلسفة الطبيعية

مقدمة


أزعم أن أهمية هذا البحث تكمن في كون المثالية قد ارتبطت تاريخيّا بالخرافة والحالمية والابتعاد عن الواقع، وقد ربطها الملاحدة بالإيمان، إلا أنه بالفعل قد سيطر التفكير المثالي على التفكير الديني بصورة واسعة بالذات في دائرة اللاهوت وعلم الكلام في ظل سيطرة فلسفة آرسطو وأفلاطون وأفلوطين وأوغسطين، الخ.

لكن العجيب أن أقوى فلسفة يعتضد بها الإلحاد اليوم ويزعم أنها أكثر صور المادية غلوّا وأنها هي الانطلاق المحض من الواقع والحس متهمة بأنها فلسفة مثالية!.

ولنبدأ بقليل من التعريفات:

يمكننا أن نعرف المادية: من جهة الأنطولوجيا (الوجود): على أنها تلك الفلسفة التي تقول أن كل موجود فهو قابل للحس لذاته مستقل عن الإدراك، ومن جهة الابستمولوجيا (المعرفة): أنها تقول أن نشأة المعرفة في الإنسان من كليات أو جزئيات كلها من الحس، وأن في الإنسان آلة عقلية فطرية عضوية مركبة فيه بحيث يستطيع أن يستخلص الكليات من الجزئيات.

أما المثالية: فهي تنقسم إلى قسمين: مثالية موضوعية، ومثالية ذاتية.

والتي تهمنا هنا هي الموضوعية، لأنها ثنائية تعترف بنوعين من الوجود، وجود مثالي لا مادي ووجود محسوس مادي وأن بينهم علاقة غامضة ، لكنهم يجعلون الوجود المثالي أسبق ، وكذلك يجعلون معرفة المثال أسبق بحيث يجعلون بعض الكليات أو كلها أسبق من معرفة الجزئيات وأن الجزئيات تعرف بواسطة الكليات لا العكس.

فينطلقون من الفكرة إلى الواقع لا من الواقع إلى الفكرة، أو يجعلون الواقع المحسوس مذكرًا بالفكرة لا أنه مصدرها.

بالنسبة للفلسفة الطبيعية: فسأعرفها بأنها تلك الفلسفة التي تقول: أنه لا موجود إلا ما يقبل القياس على كيفيات الموجودات المحسوسة هذا العالم ويسمونه طبيعي، ويقولون بتماثل جميع الأجسام (الموجودات) من هذه الجهة، أن كلها بينها قدر مشترك من الكيفيات بحيث يمكن أن تقاس عليها وتدخل في قوانين مشتركة وصياغات رياضية مشتركة وداخل نماذج تفسيرية مشتركة، ويقبلون مسلمات مثل التماثلية الزمانية (uniformity) والمكانية (Isotropy) والتجانس الكوني (Homogeneity) والانغلاق السببي الطبيعي. (1)

قبل المحاكمة، فارق مهم في التعامل مع الحس:


يزعم المثاليين كما يزعم الماديين أنهم بالفعل يتعاملون مع الحس ويأخذون منه معرفة بالفعل، لكن ما الفرق في تعاملهم؟(2)

يأخذ المادي الأصيل المعرفة من الحس، إما أنه يأخذ الجزئي مباشرة، أو يصل بالاستقراء والتجربة لمعرفة طبيعة الجزئيات كقضية كلية محدودة مكانيا وزمانيا بحيز الاستقراء الحسي، أو أن يقيس جزئي في الغائب على جزئي في الشاهد لعلة جامعة ضرورية، لكنه بالنهاية لا يتعدى المعرفة التي تلقاها من الحس قيد أنملة، فهو لو جرد من الحس علاقة ضرورية بين الوجود والزمان مثلًا فسيحكم أن كل موجود فهو في زمان، وسيقيس الغائب على الشاهد لعلة الوجود المشتركة هنا، بينما العلاقات غير الضرورية مثل أن الماء يتبخر عند درجة 100 C فلن يعممها إلا داخل حيز الاستقراء المكاني والزماني وبعدها ستقل وثوقيته المعرفية تدريجيا كلما ابتعدنا عن دائرة الحس.

أما المثالي: فهو سيزعم أن معرفته كانت مشروطة بالحس، ولكنها هي قفزة مثالية، بحيث أنها لا يمكن أن يشار إليها حسيا ويقال تعلمت هذه القضية عند رؤيتي لكذا ولكذا، بل هو سيجعل التجربة أول الطريق ثم سيفتح الباب على مصراعيه للتلقي عن مصدر آخر، وسأعطي الآن مثال:

مادي: يرى مجموعة من التفاح، فعقله سيجرد مفهوم التفاح الكلي كقدر مشترك بينهم

مثالي: يرى مجموعة من التفاح، فعقله سيكشف له عن مفهوم التفاح الكلي بسبب أنه أحس بالجزئيات، لكن هذا المفهوم لم يأخذه من الحس إنما انكشف له بطريقة ما بسبب الحس لكنها بحد ذاتها ليست معرفة حسية فالحس شرط فيها لا سبب وأن هذا الكلي ليس مجرد قدر مشترك انتزع من المحسوس بل معرفة زائدة على المحسوس من واقع آخر وتشير لواقع آخر

فالمادي يقتصر على المعاني والكيفيات والتعميمات التي يفيدها الحس وحسب، بينما المثالي يرى أن الحس هو خطوة أولى تفتح الباب لقفزات العقل التي لا تعتمد على الحس سوى كخطوة أولى وحسب، وهذه القفزات لاحقًا هي مستغنية عن الحس بالكلية بل قد تصل لنتائج معارضة حتى لقضايا الحس الضرورية (فيعارض حكم العقل المحض حكم الوهم والخيال الحسي).(3)

بداية المحاكمة:


تنطلق الطبيعية المنهجية من مجموعة مسلمات تفرضها على الواقع فرضًا لكنها تزعم أن الواقع يفيد هذه المسلمات بالفعل، وتستند لتجربة علمية طولها 300 سنة من الخبرة لتقول، نعم قد استخدمنا هذه المنهجية لمدة 300 سنة وكانت نافعة ومفيدة، فهي إذًا صحيحة أو تجعلنا نقترب من الحقيقة باستمرار، بغض النظر هل بنيتها المنطقية الداخلية صحيحة أم أنها تعاني من قفزات ومصادرات واستدلال دوراني.

هل فعلًا ما يزعمونه صحيحًا؟ وهل لا يمكن تفسير ما حصل إلا بكون مسلمات الفلسفة الطبيعية صحيحة، وهي أن التفسير الذي يقبل هو فقط التفسير الذي هو قياس على كيفية شيء محسوس، نعم أنا أقول أن العالم الطبيعي ليس له أن يفترض إلا داخل إطار التشبيه بالمحسوس حتى لا يكون قد اعتدى على الغيب، لكن ليس له أن يتكلم في الغيب المطلق أصلًا بل يفترض فقط داخل إطار عادته الحسية وما ينفعه، فلا يتكلم في فرضية تتحدث عن سبب نشأة العالم على غير مثال سابق أصلًا فيقول لن أفترض إلا سبب طبيعي يمكن أن يقاس على الأسباب الاعتيادية في الكيفيات!

(التفسير الأول) لقائل منا أن يقول لهم: ما تفيدنا به هذه ال300 سنة المنصرمة هو أن التشبيهات التي كنتم تقدمونها صحيحة، وأن بالفعل كثير من الأسباب الغيبية التي تتعاملون معها في نظرياتكم (كسبب الجاذبية مثلًا) هو بالفعل يشبه الموجودات المعتادة المحسوسة بالفعل من وجوه ويشبه ما تتخيلونه عنه من وجوه بحيث تنطبق عليه معادلاتكم الوصفية، ومع ذلك من الممكن عقلًا أن يكون مختلف تماما من وجوه أخرى لا تقبل التوقع، حيث أننا قد نكون لا نمتلك معاني كلية منتزعة من الحس تقبل حتى أن تصف تلك الوجوه المختلفة المغيبة عنا، فسيكون عقلنا قاصر حتى على أن يخطر على باله افتراض يطابق تلك الوجوه ولو بالصدفة!

وتفسير ذلك بأن تشبيهاتنا بالفعل كانت صحيحة من وجوه سيكون نافع عمليّا وكلما كان التشبيه يشمل وجوه أكثر أو ظواهر أكثر سيفيد التناسقية التفسيرية والتوحيد النظري أكثر (unification)، لكنه لن يفيد بأن المنهجية من حيث أنها فكرة أو مثال أو قاعدة عقلية هي نافعة بحد ذاتها!! وهي أن الموجودات كلها طبيعية (بالتالي كل ما في الزمان والمكان وكل ما يصح أن يكون سببًا أو حادثًا)

هنا سينقسمون إلى قسمين: قسم يقول أنا أقول أنها نافعة بغض النظر عن صحتها (المنهجية الطبيعية) ، وقسم يقول بل نفعها دليل على صحتها (الفلسفة الطبيعية)

ونقول: كلا الفريقين يلزمهم نفس اللازم، وهو المثالية، وتعال لنحاكم الفريق الأول فنقول: الفكرة بحد ذاتها إما أن تكون صحيحة كلها أو جزئها، أو خاطئة كلها أو جزئها، ونفعها بالضرورة نابع عن صحة كلها أو جزئها، فمثلًأ قد تكون الفكرة جزء كبير منها خاطئ لكن لتشابه جزء منها مع الواقع من وجوه فستفيدني من هذا الوجه، لكن لا يتصور أن تكون الفكرة خاطئة تماما لا علاقة لها بالواقع ومع ذلك تكون مفيدة! وكيف توصف الفكرة من حيث هي فكرة بأنها مفيدة؟! هذه هي المثالية بعينها

فإذا لم تكن الفكرة تطابق الواقع في أي جزء من أجزائها لم يبق لها أي صلة بالواقع المحسوس وبالتالي كيف ستكون مفيدة؟ إلا إذا قلنا بأنها لها علاقة مثالية سحرية مع الواقع مثل تلك العلاقة التي فرضها أفلاطون بين الكليات والجزئيات!، أو تلك العلاقة التي فرضها كانط بين الشيء في ذاته والشيء كما يظهر لنا (حيث أنه يظهر لنا أنه متحرك في زمان ومكان لكن ذلك لا يفيدنا أن نعرف ذلك عنه حقّا فلا يفيد الأثر بمعرفة شيء عن النتيجة!)

وهذه العلاقة يكشفها العقل كشفًا لا من الحس إذا كانت الفكرة هذه خاطئة أو لا دليل على صحتها أو صحة بعضها (كالاستدلال على أنها تشبه الواقع من وجوه) فهي إذًا لم تؤخذ من الحس وهي أعم من الحس بكثير ولا تفيدها الجزئيات المحسوسة (كما ذكرنا أن الجزئيات المحسوسة تفيد انتزاع قدر مشترك بين المحسوسات وهو في هذه الحالة التشابه في الآثار) فمثلًا آثار الجاذبية هي مشابهة لانحناء بساط (تشبيه اينشتاين) أو لحبل يجذب شيء (تشبيه نيوتن)، فلنا أن نقول أن التشبيهات هذه نافعة ويمكن بناء نظريات عليها، لكن ليس لنا أن نقول أن المنهجية بحد ذاتها نافعة لذاتها بغض النظر عن مسألة التشبيه، فلو كانوا يقولون نحن استقرائنا الطويل افادنا بأن كل الظواهر التي وقعت تحت حسنا كانت بالفعل تشبه أن تكون طبيعية ولو شبهناها بشيء طبيعي استطعنا تسخيرها وتفسيرها، لقلنا تمام لكن عليكم أن تتواضعوا معرفيا طالما أنه تشبيه ولا ترفضوا التفسير الديني اليقيني إذا جاء لأن كلامكم لا يعدوا ان يكون تشبيه نافع مهما طابق الواقع في عدد كبير من الوجوه.

وركز أن تفسير الأمر من هذه الناحية هو يفيد أننا استقرأنا موجودات محسوسة فعلمنا عنها شيء (وهي أنها تشبه بعضها البعض من وجوه داخل حيز الاستقراء) فهذا أمر يمكن إعادته كله إلى الحس.

(التفسير الثاني) بينما تفسيرهم هم، أن استقراء العادة أفادنا أن المنهجية الطبيعية من حيث أنها قالب عقلي نظري تفسيري هو بحد ذاته مفيد واقعيّا بالتالي هو صحيح حتى خارج حيز الاستقراء وفي كل زمان ومكان وأن هذه القفزة العالية فوق نتائج الحس هي كشف عقلي لا يمكن إرجاعه بتمامه إلى الحس كما فعلنا في التفسير الأول.

ويمكنني ضرب مثال هزلي هنا لتقريب الفكرة أكثر، تخيل معي شخص رأى حلم أنه سيلعب 10 مرات ويفوز، واستيقظ معتقدًا أن هذه الفكرة هي إشارة لحظ جيد اليوم، فذهب ولعب وبالفعل فاز في العشر مرات!

لكنه لم يقل أن هناك سبب غيبي لحصول ذلك كأن تكون معرفة مصدرها الإله مثلًا ، أو إلخ، لكنه قال، هذه الفكرة بحد ذاتها مفيدة، وهي التي أفادتني بالفوز، مع كونها لا مستند لها من الحس إنما هي عقلية محضة لكنها مفيدة، أو أن لها مستند حسي لكنه غير كافي ليضفي عليها هذه الوثوقية (والحس هنا هو الحلم)، فهو لم يقترح رابط مبرر بين الفكرة والحس لتكون الفكرة مطابقة للواقع بل نسب للفكرة صفة وهي أنها هي بحد ذاتها نافعة علميّا بمجرد أن يصل عقله لها.

وهنا نأتي إلى فكرة أخرى اقترحوها هم وقد تسمعها على لسان بعض مفكريهم أمثال ريتشارد داوكنز مثلًا وهي (epistemic privilege)، ولنعطي مقدمة تاريخية نقرب بها هذه الفكرة.

كان بعض الفلاسفة سابقًا يزعمون أن الناس إما فلاسفة أو عوام، وأن الفلاسفة منهم من يتكلم لأجل العوام (أنبياء) ومنهم من يتكلم لأجل الخواص (أهل البرهان)، وأن الفلاسفة نفوسهم لها تركيبة خاصة بحيث أنها محل قابل لانكشاف المعقولات لها بما هو زائد عن مجرد الحس الذي هو بمتناول الجميع.

فالجميع يدركون الظلال بينما هم يدركون الحقائق العقلية (كما جاء في مثال الكهف الشهير لأفلاطون)، فعقولهم ونفوسهم مميزة وزكية ويزعمون أن هذا يتوصل له بالرياضة النفسية والمداومة على التفكير النظري المثالي ولذلك وصل بعضهم للقول بالنبوة المكتسبة أو حتى بتفضيل الفيلسوف المحض على النبي.

ظهرت هذه الفكرة مجددا لكن في المجتمع العلمي المعاصر حيث أصبح بعضهم يرى أن العالم يمكنه أن يفهم من الحس ما لا يفهمه الإنسان العادي الذي يقف عند حدود حواسه ومصادره المعرفية الفطرية، فالتفسير الأول المذكور في المقال أعلاه كان يقف عند حدود الحس ولا يخبر إلا عن ما أحسه، إلا أن الثاني كان يقفز قفزة مثالية يدعي أن الحس كان شرطًا أو سببا ناقصًا في كشفها بينما عقل المنظر أكمل المسير لوحده لأن فيه خاصية مميزة تفيد ذلك وهو مستغنٍ عن الحس فيها، فليس طبيعي واحد يقدر على الإشارة لقضية حسية واحدة أو مجموعة هائلة من القضايا تفيد أن كل الوجود طبيعي! لكنه بالفعل إما أنه سيسلم أن هذه الفكرة ولو كانت خاطئة فهي مفيدة بحد ذاتها وبشكل طاغٍ على كل الظواهر ولا تقبل الخلاف ولا التخطئة من رؤى كونية مختلفة متكافئة معها على الأقل أو متفوقة عليها من جهة الوثوقية المعرفية، أو أنه سيقول أنها صحيحة بالفعل في كل زمان ومكان لأن عقله استطاع أن يكشف ذلك من استقراء حيز من هذا الزمان والمكان (رغم أنه لا يوجد علة قياسية ضرورية لقياس الشاهد على الغائب في الكيفيات هنا) بل هي مجرد عادة مهما اتسعت لن تفيده بهذا المطلب العملاق، إلا أنه سيجسر عليه بكشف مثالي!.

وسترى ذلك مثلًا في كلام ريتشارد داوكنز حيث سيزعم أن نظرية التطور لا يمكن للإنسان العاقل العادي فهم وجه ضرورية أدلتها بينما يمكن للمنظر الطبيعي كشف ذلك بحيث لو نظرت أنت بعقله سيتصل في نفسك لمرتبة الضرورة! 

وحتى يقول ستيفين هاوكينج حين يسأل ما هو العلم فيقول (هو ما يقوم به العلماء)!

بل بعضهم وصل للقول بأن المعادلات الرياضية نفسها تكتشف اكتشافًا من الواقع، لا أنها أليق صياغة وضعية وصلنا لها حتى الآن لوصف ظاهرة ما، فيتعامل وكأن الواقع نفسه فيه هذه المعادلة وهي سبب من أسباب الظاهرة أصلًا! وكذلك يتعاملون مع القانون الطبيعي، أنه كشف عقلي لسبب حدوث الظاهرة لا وصف لكيفية الحدوث ولترابط أسباب جزئية مع نتائج جزئية في قضية كلية لغوية مصاغة للتعبير عن ذلك! بل سبب أٍساسي في الواقع أعلى وأرفع وهو قانون وجودي متعالٍ عن طبائع الجزئيات والعلاقات بينها(4)

بل رأينا كيف وصلوا لتشييء علاقات ذهنية كالزمان والمكان بل وبعضهم حتى للصفات فيجعلها طاقات قائمة بنفسها! ولو زعم أن هذا مصدره الحس فهو أشبه بزعم المثالي أن الحس كان شرطًا في حصوله على تلك المعارف لكن ذلك لا يلزم منه أن تكون المعرفة كلها جائت من الحس إنما سبب الحس!(5)(6)

وأنه سينسب للمعارف صفات بحد ذاتها وبغض النظر عن علاقتها التفصيلية مع الواقع فيقول: هذه المعرفة ضرورية (لذاتها) لا كحالة للعارف بها، أو هذا النموذج العقلي (مفيد) بغض النظر عن كونه يطابق الواقع في حالات معينة، بل هو لذاته لمجرد توصل الذهن له فهو مفيد وأن الفكرة بحد ذاتها بغض النظر عن صوابها وخطأها فهي تنتج معارف صحيحة يمكن تفسير المحسوس بها (أشبه بقوالب كانط القبلية).(7)

نتيجة المحاكمة:


المثالية تضيف صفاتًا للأفكار أزيد من الصواب والخطأ (مطابقة الواقع المحسوس)، الطبيعيانية المنهجية والفلسفية يفعلون أيضًا فينسبون لها النفع بغض النظر عن المطابقة ، أو يفرضون المطابقة دون تبرير حسي كافي (كقالب عقلي يفرض على الحس ويعطي نتائج مفيدة (طريقة كانطية) )

المثالية: تنطلق من الفكر إلى المحسوس لكنها لا يمكنها أن ترجع الفكر إلى الحس بتمامه بل سيبقى في النموذج قفزات بعيدة عن أن يكون مصدرها الواقع المحسوس وأن العقل وحده سيكون كافٍ في الكشف على صحتها وبالتالي سيفرضها كتفسير ضروري للواقع، والطبيعانية تفعل

وليس لقائل أن يقول أن اتساع المثال أو الفكرة على المحسوس هو من جنس الافتراض، لأن الافتراض هو تشبيه يمكن التأكد من صحته في الحالة المعينة بالحس فيكفي أن أرصد أثر الظاهرة هذه وأثر الظاهرة هذه لألاحظ التشابه حسيا ، فهذا ليس اتساع عن الحس أصلًا، لكن الطبيعانية لا تقتصر في عملها على هذا، فهي فعلًا تدخل في مضائق غيبية معممةً هذا القالب العقلي النظري على كل موجود من حيث هو موجود زاعمة أن مجموع ما تحصل لها من حس وخبرة في المجال العلمي يكفي لأن يقال أن عقل الباحث العلمي استطاع أن يتطور ليصل لهذا الكشف العملاق والسر الكوني الذي سيكون طريقًا له ليصل لاحقا لحلم التوحيد النظري الشامل وهي نظرية كل شيء (theory of everything) وهي بمثابة عقل شيطان لابلاس!

وهو أن يكشف له عقله في يوم ما المعادلة الرياضية العملاقة التي تفسر كل ظواهر الكون والتي تغنيه عن أن يطوفه مجرباً له بل يتكئ على أريكته ليقول قد كشف لي عقلي أخيرًا هذه المعادلة الرياضية التي تمكنني من تفسير أي ظاهرة بشكل صحيح.

فمن لا يرى بكل ما ذكرت مثالية ، فهو لا يعرف المثالية ولا المادية، فالمادية فلسفة متواضعة، ليس لها مبرر نظري من داخلها لرفض الغيب أصلًا إذ رفضها هذا لن يكون له مستند حسي حتى ! إذ القول في الوجود كالقول في العدم، لابد له من مستند من الحس، فلو رفضت المادية الغيب لكانت مثالية في هذا الاختيار لأنها ستزعم أن الحس كشف لها بطريقة سحرية على أنه لا وجود للغيب بدون واسطة حسية بين هذه المقولة وبين الواقع!

فالطبيعية مثالية في أصلها ولو تخلت عن المثالية لقتلت نفسها، فهو طبع غير قابل للإصلاح فيها (من ذاتياتها)

هذا والله أعلم.


إرسال تعليق