ما هو "الوهم والخيال" الذي يتحدث عنه المتكلمين في كتبهم؟



أثناء قرائتك لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية أو حتى المتكلمين ستقف على كلمة الوهم والخيال كقسيم للنظر العقلي المحض، فما معناه وما موقف أهل السنة منه؟


يقول د. أبو الفداء ابن مسعود:

"الوهم قوة تدرك المعاني الجزئية غير المحسوسة المتعلقة بالمحسوسات. وهو قريب مما يقال له بالاصطلاح السيولوجي العصري cognition أو الإدراك الاستعرافي. فأنت تدرك بالحس أنك تسمع صوتا عاليا، مثلا، وهذا هو الperception في اصطلاح المعاصرين، فيحصل لك بالوهم شعور بالانزعاج أو كراهية ذلك الصوت، من محصول خبرتك الذاتية الكلية بنظائر ذلك فيمما مررت به. وهذه هي العلوم الكلية التي تقوم سلفا بالنفس، مما حصل لها من مجموع خبرتها، أو مما ركبه الله فيها من الطباع والغرائز وما شاكل ذلك.

وأما الخيال فهو ملكة العقل التي يتمكن بها من تصور جزئيات مشابهة للمحسوسات وتركيب بعضها من بعض فيما لم ير له نظيرا مماثلا بالضرورة. كأن تتخيل مثلا أنك تطير في الهواء كالطائر، فيصور لك عقلك صورتك مركبة على صورة الطائر وكأن ذراعيك هم جناحاه وكأنك تنظر من عينيه. فالتخييل هو تصوير ذهني محاك للمحسوسات المعتادة، وهو ملكة إضافية فوق ملكة الوهم. والمتوهمات هي المدركات الناشئة عن قوة الوهم، وقد جعلوها قسيمة المعقولات، لأن المعقولات في اصطلاحهم هي المدركات الكلية، خلافا للمتوهمات إذ هي جزئية، والمحسوسات هي ما يحصل من حس دون تصرف لا لملكة الوهم ولا لملكة العقل. والمخيلات كما مر هي المدركات الحسية بعد تصرف النفس فيها بالتحليل والتركيب والتفكيك وكذا.

وسواء الوهم أو الخيال، فالتعقل، قد يقع للنفس فيها قضايا صحيحة بالضرورة وقضايا ظنية تصيب أو تخطئ، وقضايا تكون من الباطل الصريح أو من المحالات، كما بينه شيخ الإسلام رحمه الله"

انتهى كلامه


___

سأنقل بعض كلام شيخ الإسلام في المسألة وأبين مذهبه فيه ووجه منعهم لهذه العملية العقلية من العمل في الإلهيات


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقا وما كان مخالفا فأما المطابق مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه ونحو ذلك فهذا الوهم والخيال حق وقضاياه صادقة وأما غير المطابق فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه والأمر بالعكس والله لا يحب كل مختال فخور فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه وأمثال ذلك

قالوا وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل ونحن نقول إنه من حكم الوهم والخيال المطابق" (1)

وقال:

"أنتم قلتم إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس كإدراك الصداقة والعداوة إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما نشاهده وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أمورا جزئية بمنزلة الحس وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال كما أنها ليست من إدراك الحس وإنما هي قضايا كلية عقلية بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية وهذا لا محيد لهم عنه وهذا بمنزلة الحكم بإن كل وهم وخيال فإنما يدرك أمورا جزئية

فهذه القضية الكلية عقلية وإن كانت حكما على الأمور الوهمية الخيالية وكذلك إذا قلت كل صداقة فإنها ضد للعداوة فهذا حكم بما في عقل كل الأفراد التي هي وهمية

وكذلك إذا قلنا كل محسوس فإنه جزئي فهذه قضية كلية عقلية تتناول كل حسي

ومعلوم أنه كلما كان الحكم أعم كان أقرب إلى العقل فقولنا كل موجود قائم بنفسه فإنه يشار إليه وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين من أعم القضايا وأشملها فكيف تكون من الوهميات التي لا تكون إلا جزئية " (2)


فقد قسموا العقل لجزئين جزء يتعامل مع الكليات المجردة وهذا صادق ضروري وقسم يتعامل مع الجزئيات وهو يعمل بالاستقراء وقد يستقي بعض مقدماته من العقل الضروري لكن لا يلتزمها بكل ما يلزم منها فعندهم أنه قد يتناقض حتى مع إيهامك بأن نتائجه ضرورية!

وهذا القسم هو الذي يمكنك من استحضار صور حسية في نفسك والحكم عليه بشعور حسي معين كاستحضارك لجري حيوان مفترس خلفك وأن هذا مخيف وهذا عندهم يغلب استخدامه على العوام وهو عقل كثير من الحيوانات التي ينتفعون به في حياتهم اليومية بينما يتميز الفلاسفة بأنهم ريضوا عقولهم على كشف حجب الوهم والخيال والنظر إلى الحقيقة المجردة! (مثل مثال أفلاطون وكهفه)

بل بعضهم يقول أن الاستقراء كله لا يمكن أن ينتج معرفة ضرورية! لأنهم يشترطون شروط معينة زائدة عن المعيار العقلي الفطري لحدوث الضرورة، فلا يقبلون مجرد الجزم الضروري في النفس بل يضعون معايير زائدة مثل أن تؤدي القضية لتناقض أو غير ذلك من شروطهم وقد بينا نقد بعضها في موضع سابق.


وبما أن هذا القسم لا يتعامل إلا مع الجزئيات المحسوسة المتغيرة فهو عندهم مقصور على عالم الجسمانيات لأنه لا يحس بالحواس الخمس عندهم إلا الجسماني وهم عندهم الموجودات القائمة بنفسها منها ما له وجود معقول فقط لا يشار إليه بالحس ومنها ما له وجود يعلم بشيء من الحواس الخمس بحسبه.


يقول شيخ الإسلام: "والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت في الفطرة لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات" (3)

فـ "قول القائل إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه أولا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك

فإذا قيل لهم حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها

قالوا إيطالكم لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال موقوف على ثبوت هذه العقليات وثبوتها موقوف على إبطال هذا" (4)


ويقول: " يقال إن أردتم بالعقليات ما يقوم بالقلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها فليس الكلام هنا في هذه ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية وإن أردتم بالعقليات موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها فلم قلتم إن هذا موجود فالنزاع في هذا ونحن نقول إن بطلان هذا معلوم بالبديهة" (5)

فنحن مثلًا لا نقبل إذا تخيلنا صورة "الرجل الكلي" مع إهمال الصفات التي يكون بها معينًا في الخارج فهذا من قبيل الخيال ولا نقبل وجوده كما هو في الخارج ولا أن الخيال يملي علينا وجوده في الخارج حتى بل إن هذا حصل للفلاسفة لا لأهل السنة حين فرضوا وجود عالم المثل قائمًا بنفسه!


يقول شيخ الإسلام:

"وقوله وإن كان باطلا فقولهم أفسد منه وإن كانا يشربان من عين واحدة وهو اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان وكذلك الذين أثبتوا الأحوال في الخارج وقالوا هي لا موجودة ولا معدومة شربوا أيضا من هذه العين وكذلك من ظن اتحاد العالم بالمعلوم والمحب بالمحبوب والعابد بالمعبود كما وقع لأهل الاتحاد المعين قد شرب من هذه العين المرة المالحة أيضا وكذلك من قال بالاتحاد المطلق تصور وجودا مطلقا في نفسه فظن أنه في الخارج فهؤلاء كلهم شربوا من عين الوهم والخيال فظنوا أن ما يكون في وهمهم وخيالهم هو ثابت في الخارج

هذا وهم ينكرون على أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة" (6)


فموقف أهل السنة أن كل موجود في الخارج فهو قابل للحس وبينه وبين سائر المحسوسات في الوجود قد معنوي مشترك بالضرورة له مصداق خارجي بكيفية تعود لخصوص هذا الموصوف وقد يشترك فيها في الكيفية مع نوعه إن كان مخلوقًا


وأن العقل قادر أن يجرد قدر ضروري يستحضر صورته في نفسه عند الكلام عن هذا الكلي المعين وأن يحكم عليه حكم ضروري بناء على ذلك وأن هذا يطابق الواقع إن أعطى حكمًا ضروريّا فأهل السنة لا يفرقون بين الضروريات وكلها عندهم مما فطر الله عليها عباده سواء فطرة قريبة أو مقتضى الفطرة الذي يتوسطه بعض التأمل والأسباب الصحيحة التي جعلها الله تورث العلم الصحيح للعقل الصحيح بفطرته إلا إن كان فاسدًا محجوبًا عنها بالموانع اللاعقلانية.

فمثلًا توهمك لشيء بغض النظر ما هو ثم فرضك لشيء آخر بغض النظر ما هو، فهذا الشيء المجرد عن أي شيء أزيد من كونه يحقق معنى الشيء القائم بنفسه في الخارج حقيقة لا يمكن أن يوجد في الخارج هكذا ولو تخيلته لكن هذا كافٍ في استحضار المعنى ثم الحكم بأن هذين الشيئين لا يمكن إلا أن يكون أحدهم داخل الآخر أو خارجه وهذا حكم ضروري والعقل يعممه على الغائب كما هو صحيح في الشاهد.

فالعقل هنا حكم بذلك بناء على قاعدة كلية شاملة لكل موجود ولو كانت معاني مادتها منتزعة من الشاهد فإن العقل بفطرته قادر أن يستوعب الجزء الضروري اللازم لمعنى الوجود فيعممها دون العرضي الذي يكون لزومه لزومًا عاديّا وهذا الحكم الكلي ليس نفسه من الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لا يعطي أحكامًا كلية إنما يتعامل مع الجزئيات متحاكمًا إلى أحكام العقل الكلية.


والعقل عند أهل السنة لا يكذب في الضروريات ولا الشرع يأتي بما يحيله العقل ضرورة ولا يأتي بما يخالف ما أثبته العقل الفطري ضرورة، إنما بالمحارات التي قد تحير بعض العقول وقد تعجز بعضها عن العلم بتأويله.

وهذا العقل مشتمل للتجريد وللوهم والخيال والاستقراء وإلى آخره وكل هذه العمليات قد تصيب وتخطئ فيما هو ليس ضروريّا ويحصل تفاوت في مدى قوتها فيقدم الأقوى على الأضعف فلا ميزة للتجريد والأحكام المبنية على الكليات المجردة على تلك المبنية على الوهم والخيال بل إن الفلاسفة كثيرًأ ما يغلطون ويخالفون بعضهم في هذا بل فطر الله العباد أن الإدراك الحسي يعطي علمًا أكبر من مجرد إدراكه المجمل بالعقل.


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"ولفظ التخيل والتوهم، لا يدل على نفس الإدراك؛ وإنما يدل على نحو الاعتقاد، الذي يكون مطابقًا للإدراك تارة، ويكون فيما تصور في النفس وتألف فيها وتنشأ فيها، كما تنشأ فيها العلوم بالنظر والاستدلال. وهذا الثاني يكون حقًّا تارة وباطلًا أخرى، كما أن ما يثبته الإنسان في نفسه، من الاعتقادات بالنظر والاستدلال، قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا" (7)


مع أن شيخ الإسلام يقول لهم أن هذا الاصطلاح مخالف للغة العرب أصلًا وموهم لأن تكون هذه الأحكام "أي التي تصدر عن الوهم والخيال" دائمًا باطلة لا حقيقة خارجية لها فيقول:

"وذلك لأن لفظ الوهم والخيال كثيرا ما يطلق على تصور ما لا حقيقة له في الخارج بل هذا المعنى هو المعروف من لغة العرب" ( 8 )


وفي الختام سأضع فصلًا من كتاب الانتصار للتدمرية يناقش هذه القضية نقاشًا نافعًا من باب الاستزادة:

اضغط هنا للتحميل


___

(1) درء تعارض العقل والنقل (6/ 17)

(2) درء تعارض العقل والنقل (6/ 40)

(3) درء تعارض العقل والنقل (6/ 14)

(4) درء تعارض العقل والنقل (6/ 16)

(5) درء تعارض العقل والنقل (6/ 17)

(6) درء تعارض العقل والنقل (5/ 127)

(7) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 318)

( 8 ) درء تعارض العقل والنقل (6/ 43)


هذا والله أعلم


#الغيث_الشامي 

إرسال تعليق