الرد الختامي على الحلولية القائلين بفناء القرآن "الأثرية الزائفة"

20 وقت القراءة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد

فلمزيد من التوضيح أحببت أن أكتب المقال الأخير في مسألة كلام الله عز وجل، ووالله ما أفعل ذلك إلا ردّا على قومٍ صرّحوا في المناقشات أن المصحف هو صفة من صفات الله حتى أن أحدهم قال أن من فرق أي تفريق بين المصحف والقرآن كأن يقول أن المصحف هو ورق مكتوب به الكلام الذي قاله الله والصفة التي قامت بذات الله وهي الكلام فهو مشرك

وقال أن الحرق يقع على صفة الله لا على المصحف وحسب!

فوالله يا هؤلاء لولا أنني ليس بيني وبينكم سوى القلم لحاربتكم بالسيوف ذبّا عن كلام الله من حيث تحسبون أنكم أنتم من تدفعون التجهم!

ويحكم جهمٌ عطل صفات الله وأنتم ادعيتم أنها تحترق وتفنى!

يقول ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله "وأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد"

وأنتم اليوم أحفادهم.

ويقول الإمام الدارمي: 

"كذلك القرآن لو احترقت المصاحف كلها لم ينقص من نفس القرآن حرف واحد, وكذلك لو احترقت القرأة كلهم أو قتلوا أو ماتوا لبقي القرآن بكماله كما كان لم ينتقص منه حرف واحد؛ لأنه منه بدأ وإليه يعود عند فناء الخلق بكماله غير منقوص."

يقول الإمام الدارمي:

"ويلكم! ما سبقكم إلى مثل هذه الفرية على الله إنس ولا جان، ولا فرعون من الفراعنة، ولا شيطان. 

وأعظم من ذلك؛ دعواك أن وجه الله؛ كوجه الثوب، والحائط، والميت الذي لا يوقف منها على وجه ولا ظهر، ما تركتم من الكفر بوجه الله غاية، ولو قد تكلم بهذا رجل بالمغرب؛ لوجب على أهل الشرق أن يغزوه، حتى يقتلوه؛ غضبا لله، وإجلالا لوجهه ذي الجلال والإكرام."

ونحن نقول بمثله عن من ألحد في كلام الله وأدعى أنه يحترق ويفنى ويبيد وينفد!

والآن سأحكي لكم القصة وأرجو أن تقرأوا المقال بلا إجتزاء أو تسرع أو صور نمطية مسبقة:

 133 - حدثني إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا رجل سماه حدثنا معاوية بن عمار قال: سألت جعفر بن محمد عن القرآن، قلت: خالق أو مخلوق؟ قال: " ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله، قال إسماعيل: وهو قولنا وقول أهل السنة، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر "

● فهناك قوم فهموا أن القرآن الذي هو كلام الله ليس صفة من صفاته إنما عين قائمة بنفسها كذات الله، مع أن القرآن لا خالق ولا مخلوق بل هو صفة الخالق وهو فعله وكلامه، لكن القائلين بهذا القول قالوا أن القرآن غير مخلوق على أية حال، والحق أننا نقول كذلك، ولكن المنطلق مختلف، فهم لما فهموا الأمر على هذا النحو، قالوا حتى ألفاظ العباد بالقران غير مخلوقة!

وأنه إن كتب على ورق يصير الورق غير مخلوق، بل وحتى القلم والحبر يصير هو عين القرآن ويصير غير مخلوقًا مطلقًا.

فالآثار التي أوردوها في الباب كانت تنص على عدم القول بالخلق من عدمه على أمثال تلك الأغلوطات المجملة التي كان يأتي بها الجهمية لعلم أهل السنة بألاعيبهم وأنهم يدسون السم بالعسل.

وإلا فمن يشك أن القلم الذي أمره الله أن يكتب اللوح المحفوظ مخلوق!.

571- وقرأت في كتاب محمد بن نصر عن أحمد بن عمر، عن عبدان، عن ابن المبارك، قال: الورق والمداد مخلوق، فأما القرآن فليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله عز وجل

فالحبر الذي كتب به كلام الله ليس حبرا مجردا بل حبرا كتب به كلام الله الغير مخلوق والذي هو صفة فعلية لله قام بذاته كلامًا "وليس علمًا فقط" كما يقول الجهمية.

يقول الإمام أحمد في كتابه الشهير أصول السنة: 

وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا يَضْعُفُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِيَائِنِ مِنْهُ، وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مَخلُوقُ، وَإِيَّاكَ وَمُناظرة مَنْ أَحْدَثَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ وَقَفَ فِيهِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَخْلُوقُ أَوْ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَهَذَا صَاحِبُ بِدْعَةٍ مِثْلُ مَنْ قَالَ: ( هُوَ يَخْلُوقٌ ). وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ.

فالذي كَتَبَ القران في المصحف بهذا الحبر المعين هو العبد ولكن المكتوب بهذا الحبر هو كلام الله ولما تنظر للكلام فأنت لن تنظر للحبر مجردًا بل ستنظر ويتجه بصرك أولًا للكلام المكتوب بهذا الحبر، والذي هو كلام الله الغير مخلوق.

وهذا مثل اللفظ حين تُلي، والحبر في نفسه قبل أن تكتب به القران مخلوق.

فأنت ضعها قاعدة مريحة، أي شيء من هذه الأمور التي يطالبك خصمك بالتفريق فيها بين شيئين ببنهما جنس اختلاف ويقوم أحدهما بالآخر بحيث لا ينفصلان في الأعيان ولكن هناك نوع فرق بينهم في جزئية ما.

قل له الجزء المتعلق بفعل العبد والمنسوب له مخلوق، والجزء المتعلق بفعل الله والمنسوب له غير مخلوق.

فالمكتوب بالحبر غير مخلوق قطعًا لكنه كتب بحبر! 

فنحن لا نطلق الخلق أو عدم الخلق إلا إذا ميزنا الاعتبارات (اعتبار فعل العبد واعتبار فعل الله)

وهذا ما صنعه الإمام البخاري ردّا على هذه الفرقة وغيره من الأئمة كالإمام ابن قتيبة، حيث قال أن المتلو كلام الله والمكتوب كلام الله، وأنه يميزه العاقل عن فعله بحيث لا يصير القران من فعله! بل هو بالأساس كلام الله وأنت تنقله بفعلك أنت فقرائتك للقران فيها نوع كلام لك وفيها كلام الله، وكلامك ليس ابتداء وإنشاء بل نقل، لكن يدخله نقص مخلوقينك، كاللحن والصوت الضعيف والخطأ في القراءة والنطق وغيرها.

فأنت تقول كلام الله الغير مخلوق بكلامٍ مخلوق، والله يقول كلام المخلوق بكلامٍ غير مخلوق

ألا ترى أن الله قال كلامًا قالوه الجن! أيصير قد قال شيئًا مخلوقًا! أبدًا

فإن الكلام حين قاله الله فهو قاله بكلامه هو وكلامه غير مخلوق

وأنت حين قلت الكلام بكلامك أنت فكلامك مخلوق ولكن قلت بكلامك المخلوق كلام الله الغير مخلوق.

وخدعك من قال لك أن الجهمية قالوا بهذه العقيدة فالجهمية مسألتهم في إنكار أن القران العربي من كلام الله فقالوا كلام الله هو علمه فقط وأما الحروف والأصوات فهي أفعال العباد حكاية عن علم الله، ولذلك قالوا أن كلامك هو بحرف وصوت مخلوق وكلام الله بلا حرف ولا صوت غير مخلوق.

ولذلك تجد أن الإمام أحمد قال أن كلام الكرابيسي هو "عين" كلام جهم، "نفس" كلام جهم، وليس أنه يؤول إليه أو لازمه، والإمام أحمد لا يفتري على خصومه حاشا، فإذا لكي تفهم كلام الكرابيسي فافهم كلام جهم وانسب الكرابيسي إليه

وحتى في الأثر الذي أمر الإمام أحمد فيه بهجران من قال الإيمان مخلوق على الحركة والفعل لا على القول، وأن هذا هو قول الكرابيسي الذي هو عين كلام جهم، فيجب فهمه على ضوء ما بينه الإمام أحمد إذا

فما قول جهم والكرابيسي؟ أن القرآن ما إن قاله العبد بكلامه المخلوق صار القران نفسه بحروفه وأصواته ومعانيه مخلوقًا منسوبًا لفعل العبد فقط بكليته، وأما كلام الله الغير مخلوق فهو قائم بذات الله دائما وهو العلم وحسب، وقالت الكلابية هو الكلام النفسي وتبعهم الأشاعرة على أصل اللفظية.

فيصير الكلام عند الكرابيسي باعتبار كونه من علم الله وفي علم الله غير مخلوق ولكن حيث تلي وحيث قرأ وحيث كتب "على الحركة والفعل" مخلوق.

وكما تعلم فالقرآن أصلا لا يقوم إلا بقراءة قارئ وكتابة كاتب وحفظ كافظ وكل هذا حركة وفعل! فتأمل.

فتفريق اللفظية بين التلاوة والمتلو مبني على هذا، أن المتلو في السماء علم الله نتلوه بأدواتنا التي هي الحرف والصوت وإلا فهو بالأصل ليس حرفا ولا صوتا.

 وليس كل من فرق بين التلاوة والمتلو قصد هذا!

 ‏

هذا هو فهم الأثر فسبحان الله كيف جنح هؤلاء للطرف الآخر فقالوا حركات العباد غير مخلوقة

ووالله إنني أتحداكم أن تفرقوا بين قولكم وبين قول من قال "لفظي بالقرآن غير مخلوق" التي نهى عنها الإمام أحمد واعتبرها بدعة.

والإمام أحمد لم يعتبرها بدعة من فراغ بل لما رآها تخالف القران والسنة لأن الإمام أحمد لن يبدع بشيء يوافق القرآن والسنة، بل رآها تفصيل باطل، والإمام أحمد لم ينزل عليه وحي مخصوص بل لابد أن أدلة بدعية هذه العقيدة أي "لفظي بالقران غير مخلوق" هو في القرآن والسنة.

فأنا أتحداكم أن تأتوا لي بأي دليل من القران والسنة أو استدلالات استخدمها السلف في إبطال هذه العقيدة دون ان تقعوا في نقض كلامكم أنتم في المسألة، لأنني أزعم أن قولكم هو نفس هذا القول لكنكم تستترون عن التصريح به، فنحن ما إن طالبناكم بالتفصيل شرحتم لنا هذه العقيدة ولكن ترفضون أن تصرحوا بأنكم تعتقدونها، فأنصفوا مع أنفسكم يرحمكم الله.

والأثرية الزائفة كل مرة يسوقون لنا نفس الآثار مع نزعها عن سياقها ووضعها في سياق آخر يوهم المبتدئ في المسألة فهمهم هم!

وهذا يحسنه كل أحد.

فما أدلتنا أن إذا على "فهمنا لكلام السلف"؟! 

والذي نزعم أنكم لن تستطيعوا عليه إلا بأن تأتونا لكلام من غلط من المتأخرين ونحن نحسن أن نأتيكم بكلام أحسن منه وهو كلام وتفصيل شيخ الإسلام والإمام البخاري وغيرهم، علمًا أن محنة الإمام البخاري حصلت قبل تأليفه لكتاب خلق أفعال العباد وهو كتبه ليبرأ نفسه وأنتم تزعمون أنه لما كتب كتاب فيه برائته ضمنه نفس الجريمة! فسبحان الله شخص كتب كتاب ليبرأ نفسه ويقول أنا على عقيدة الإمام أحمد في المسألة وأخذ يشرح عقيدة الإمام أحمد فما ظنكم فيه؟! هل سيكتب نفس ما اتهمه الناس أنه يقوله مرة أخرى! أهو طفل صغير؟ سبحان الله. 

لكن حتى لا نخرج عن الموضوع:

أنك عندما تفهم عقيدة اللفظية، تفهم وجه قول اللفظي " لفظي بالقران مخلوق، وحركاتنا بالقران مخلوقة" وتفهم مقصده في هذا الكلام الذي صاغه ليكون ظاهره حق ومستساغ وباطنه السم

لأنه يقول مافي الأرض إلا الحبر والحركات وكأنها لا يقوم بها كلام الله!

فالدليل الأول: تنصيص الأئمة أن كلامهم هو عين كلام جهم، والجهم على أية حال لا يمكن أن يقول أن لله كلامًا في الأرض سواء على هيئة كتابة أو قراءة أو حفظٍ أو غيره.

فهو عين كلام الجهمية وليس أنه يلزم منه قولهم أو يؤول إليه.

فإذا خرجنا من هذه العقيدة وبرأنا من كلام جهم برأنا تبعًا من كلام الكرابيسي وهو المطلوب.

والدليل الثاني: تبديع الأئمة لمن قال لفظي بالقران غير مخلوق

وهو دليل أن الأئمة ليس عندهم مشكلة أن هناك شيء مخلوق مقترن بكلام الله الغير مخلوق تحديدًا في فعل العبد حين يقرأ القران أو يكتب القران.

وعليك أن تفهم أن خصومنا هؤلاء متمرسون على الجدل، فليس عندهم إلا كم مسألة لهم فيها سنين يجترونها، ومرضهم أنهم يريدون أن يكونوا أفضل الناس دون أن يبذلوا الجهد الذي بذله الناس، فتجده يتطاول على الإمام البخاري ومسلم ومالك وابن تيمية وابن القيم وأئمة الدعوة النجدية وابن قتيبة وإلى آخره، ويحفظ من الزلات ما يحفظ ويقيس الجميع على الأشاعرة وأهل الرأي والوسيلة هي أربع خمس مسائل نمسكهم ونبدع الأولين والآخرين وإلا فهم في الفقه والنحو والسلوك والزهد فشلوا فشلًا ذريعًا.

ويصورون لك وكأنه لا يوجد إلا الإمام أحمد في الدنيا! وطبعا أنا أدري أنهم سيقولوا الآن أنظروا يطعن بالإمام أحمد! فكيف يعتبر بوجود أئمة غيره معه في الدنيا : )

فبعد ضربهم لهؤلاء المتقدمين يأتيك للطعن بالمعاصرين كنتيجة لذلك.

ودونك أقرب مثال صاحب قناة حز الغلاصم رد عليهم ردود قوية ومازالوا يفترون عليه ويفترون عليه بلا كلل أو ملل.

وطبعا يصور لك أنه يدافع عن العقيدة وكلام الله وكلامه هو الطعن بالعقيدة كما بيننا والطعن بمن حمل العقيدة وشرح العقيدة من الأئمة.

يقول ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث في شرح حديث: "لو جعل القرآن في إهاب ، ثم ألقي في النار ما احترق"

"يريد أنه إن كتب القرآن في جلد ثم ألقي في النار ، احترق الجلد والمداد ولم يحترق القرآن ، كأن الله - عز وجل - يرفعه منه ويصونه عن النار ، ولسنا نشك في أن القرآن في المصاحف على الحقيقة لا على المجاز كما يقول أصحاب الكلام : " إن الذي في المصحف دليل على القرآن وليس به " .

فالمكتوب في الجلد والمداد القران وليس حروف وأصوات تدل على علم الله كما يقول أصحاب الكلام "الجهمية والكلابية" في عصر الكاتب ابن قتيبة.

لكن كلام الله الذي هو صفته وكلامه لا يصيبه الحرق بل الذي يحترق الورق والحبر فقط ولا تحترق صفة الله.

كما بينا في مقال سابق أيضًا من كلام الدارمي والبخاري رحمهما الله.

ومن أمارات وجود تفريق عند السلف بين الكتابة التي يقع عليها الثواب والحفظ والعلم والتعليم والقراءة كأفعال منسوبة للعباد وبين القرآن الذي هو كلام الله وفعل منسوب إليه ما سيأتي: (1)

جاء في الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد: 

بيان ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق، من الأحاديث التي رويت

فقالوا: جاء الحديث: "إن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول: هل تعرفني؟ فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن أظمأت نهارك وأسهرت ليلك" .

قال: فيأتي به الله فيقول: يا رب.

فادعوا أن القرآن مخلوق من قبل هذه الأحاديث.

فقلنا لهم: القرآن لا يجيء إلا بمعنى: أنه قد جاء من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . فله كذا وكذا. ألا ترون أن من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يجئه إلا بثوابه، لأننا نقرأ القرآن فيقول: يا رب. لأن كلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال. وإنما معنى: أن القرآن يجيء إنما يجيء ثواب القرآن. يا رب.

وجاء في نقض الدارمي على المريسي كلام الإمام الدارمي في أكثر من موضع سأنقل بعضها:

نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/ 500)

وأخرى: أنه قد عقل كل ذي عقل ورأي أن القول لا يتحول صورة لها لسان وفم، ينطق ويشفع، فحين اتفقت المعرفة من المسلمين أن ذلك كذلك علموا أن ذلك ثواب فيصوره الله بقدرته صورة رجل يبشر به المؤمنين؛ لأنه لو كان القرآن صورة كصورة الإنسان لم يتشعب أكثر من ألف ألف صورة، فيأتي أكثر من ألف ألف شافعا4، وماحلا؛ لأن الصورة الواحدة إذا هي أتت واحد زالت عن غيره، فهذا معقول لا يجهله إلا كل جهول.

 وهذا كحديث الأعمش5، عن المنهال، عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الرجل إذا مات تأتيه أعماله الصالحة في صورة رجل في أحسن هيئة وأحسن لباس وأطيب ريح فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، كان "حسنا" وكذلك تراني حسنا وكان طيبا فكذلك تراني طيبا وكذلك العمل السيء يأتي صاحبه فيقول له مثل ذلك ويبشره بعذاب الله وإنما عملهما الصلاة والصيام وما أشبهها من الأعمال الصالحة، وعمل الآخر الزنا والربا وقتل النفس بغير حقها، وما أشبهها من المعاصي قد اضمحلت وذهبت في الدنيا، فيصور الله بقدرته للمؤمن والفاجر ثوابها وعقابها يبشر بهما إكراما للمؤمن وحسرة على الكافر.

وهذا المعنى أوضح من الشمس قد علمتم ذلك إن شاء الله لكن تغالطون وتدلسون، وعليكم أوزاركم وأوزار من تضلون.".

وقال: 

فقد فسرنا هذا لهذا المعجب بجهالته في كتابنا هذا أن القرآن كلام الله ليس له صورة، ولا جسم، ولا يتحول صورة أبدا، له فم ولسان ينطق به ويشفع. فقد عقل ذلك جميع المسلمين. فلما كان المعقول ذلك عندهم علموا أن ذلك ثواب يصوره الله في أعين المؤمنين، جزاء لهم عن القرآن الذي قرأوه. واتبعوا ما فيه، ليبشر به المؤمنين ونفس القرآن كلام غير مجسم في كل أحواله، إنما يحس به إذا قرئ. فإذا زالت عنه القراءة لم يوقف له على جسم ولا صورة، إلا أن يرسم بكتاب. هذا معقول لا يجهله إلا كل جهول. قد علمتم ذلك إن شاء الله ولكنكم تغالطون، والعلماء بمغالطتكم عالمون ولضلالتكم مبطلون. ويكفي العاقل أقل مما بينا وشرحنا عن مذاهبكم غير أن في تكرير البيان شفاء لم في الصدور.

فقول الإمام أن القرآن كلام وليس له صورة ولا جسم كقول الإمام البخاري التالي:

خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 115)

 " وقال الله عز وجل: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ، فذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: {أقيموا الصلاة} [البقرة: 43] ، فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة الله، والأمر بالصلاة قرآن وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ وحفظ وكتب ليس بمخلوق، ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون الله ويحفظونه ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته، ويقال له: أترى القرآن في المصاحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى في الدنيا، وهذا رد لقول الله عز وجل: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] في الدنيا {وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] وإن قال يرى كتابة القرآن فقد رجع إلى الخلق، ويقال له: هل تدرك الأبصار إلا اللون؟ فإن قال: لا، قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى "

وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على مثل هذه النصوص، وفي ضمنها الحديث الذي أشرتِ إليه فقال في نقده لتأسيس الرازي ما عبارته: يقال هذه الحجة والجواب عنها مذكور فيما حفظ من مناظرة أحمد للجهمية من المعتزلة وغيرهم لما حبس وامتحن، وهو أيضًا مذكور فيما خرجه في الرد على الجهمية فقال فيما خرجه وقد ذكره الخلال عنه في كتاب السنة باب ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب فيأتي صاحبه فيقول هل تعرفني فيقول له من أنت فيقول أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك، قال فيأتي الله به فيقول يا رب. فادَّعَوا أن القرآن مخلوق من هذه الأحاديث. فقلنا لهم: إن القرآن لا يجيء، إنه قد جاء: من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فله كذا وكذا. ألا ترون أن من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا تجيئه، يجيء ثوابه؛ لأنا نقرأ القرآن، ويجيء ثواب القرآن، فيقول يا رب. كلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال. وأما كلامه في المناظرة فروى الخلال في كتاب السنة أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم أن أبا عبد الله قال احتجوا علي يومئذ فقالوا تجيء البقرة يوم القيامة، وتجيء تبارك، وقلت لهم إن هذا الثواب... وهذا نظير ما روي عن مجيء سائر الأعمال الصالحة في الصور الحسنة، ومثل ما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور الذي رواه أحمد من حديثه.. ثم ساق حديث البراء الطويل وفيه مجيء العمل الصالح لصاحبه في صورة شاب حسن الوجه، والعمل السيء في صورة رجل قبيح الوجه ثم قال الشيخ: وكذلك ما جاء في الكتاب والسنة من حمل الأعمال ووزنها؛ كقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) [الأنعام 31] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وفي السنن لأبي داود وغيره عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن، والمعنى الظاهر الذي يظهر للمخاطب من قوله يجيء عمله في صورة رجل أن الله تعالى يخلق من عمله صورة يصورها، ليس المعنى الظاهر أن نفس أقواله وأفعاله على صورة رجل، فإن هذا لا يظهر من هذا الخطاب ولا يفهمه أحد منه، وعلى هذا فلا يكون هذا الخطاب مصروفًا عن ظاهره، ولكن أزيل عنه المعنى الفاسد الذي يتأوَّله عليه المبتدع حيث جعل نفس كلام الله الذي تكلم به هو الصورة المصورة، كما جعلوا نفس المسيح ابن مريم هو كلمة الله التي تكلم بها، وإنما المسيح تكوَّن بكلمة الله، فسمي كلمة الله لذلك، وليس ظاهر الخطاب أن نفس كلام الله هو نفس جسد المسيح، فالمفعول بالكلمة والمفعول مما يقرؤه الإنسان ويعمله من الصالحات يسمى باسمها، فلو قيل إن في هذا نوعًا من التوسع والتجوز حيث سمي ما يكون عن العمل باسم العمل لكان هذا سائغًا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون ذلك هو المعنى الظاهر كما تقدم نظيره هذا، مع أن الناس قد تنازعوا في نفس الأعراض من العمال وغيرها هل يجوز قلبها أجسامًا قائمة بأنفسها، وذكر النزاع في ذلك أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات. انتهى محل الغرض من كلام الشيخ رحمه الله.

فهذا مذهب السلف، أعجبكم أعجبكم، لم يعجبكم أضربوا رؤوسكم بأقرب جدار فلا يضرنا غيظكم وحسدكم لأهل السنة ولا تريبنا أغلوطاتكم.

فالجهمية المخلوقية طبقات كالتالي:

أولًا علينا أن نعلم أن الله تكلم بكلام هو حروف وأصوات ومعاني وكل هذه من حقيقة الكلام بضرورة العقل والحس والنقل.

الجهمية يسقطون المعاني (كله عندهم مخلوق) = لا كلام

والكلابية يسقطون الحروف والاصوات (يثتبون أن الكلام كلام العباد والعلم علم الله!) = لا كلام

وكذلك اللفظية يحصرونه في حروف العباد وأصواتهم (الحرف والصوت للعباد بالكلية) = لا كلام

واما المعاني فيجعلونها منفصلة عن الحروف والأصوات بما يزيل حقيقة الكلام ويعطلها كما بينا

واما اهل السنة فيقولون بالحرف والصوت والمعنى فهم يثبتون كلامًا حقيقيّا كالمعروف في لغة العرب أنه يناقض الخرس.

فعقيدة الكرابيسي واللفظية تطابق عقيدة الجهم من جهة تعطيل الكلام حيث أنهم يقولون أن القرآن العربي مخلوق وهو من أفعال العباد (الحركة والفعل) وهي عندهم يدخلها التقديم والتأخير والكلام كلمة بعد كلمة والحركة بمعنى خروج الكلام منك إلى غيرك سماعًا بصوت فيجعلون هذا كأن الكلام قام جسمًا وانتقل وهذا كفهم الأثرية الزائفة للمسألة بالمناسبة : )

والثانية: هي أن الأمام أحمد فرق بين اللفظ والقرآن!!

اي والله نعم فرق تخيل! مع كون تفريقه لم يقتضي أن اللفظ غير القرآن من كل وجه كما هو معلوم إذ هو يثبت أن الحرف العربي والصوت من القرآن، ولا يجعل صوت العبد هو نفس صوت الله الذي قال به القرآن أيضًا كما ورد عنه، على عكس الأثرية الزائفة، فنحن قلنا الصوت الذي قال به الله الحروف والذي صار الصوت الذي تقرأ عليه الحروف من العباد لاحقًا هذا صوت الله غير مخلوق، لكن أصوات العباد مخلوقة، وبقيت أصوات الحروف نفسها يشترك القرأة بقرائتها على نفس الأصوات بأصواتهم المخلوقة، وهذا التفصيل طبعًا جعله رأسهم وكبيرهم الذي علمهم السحر بدعة، ونحن نلزمك باثنين أحلاهما مر:

إما أن تقول الحروف ليس لها أصوات وتكون أثبتّ الحرف ونفيت الصوت!

وإما أن تقول أن أصوات العباد نفس صوت الله من كل وجه، وإما أن تطلق على الإثنين إذا المخلوقية أو عدم المخلوقية، وكونك تحيد عن الجواب لا ينفعك بشيء فالأمر واضح بحمد الله.

فكيف فرق الإمام؟

تعال نعمل حوار افتراضي لعل الأطفال من خصومنا تفهم، لأننا اعتدنا أن نلقنهم الأمر بالملعقة كما يقال

يقول السني: ما حكم القائل أن القرآن مخلوق عند الإمام أحمد؟

الجواب: كافر

يقول السني: ما حكم الواقف في كون القرآن مخلوق فيقول لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق عند الإمام أحمد:

الجواب: شر من الأول

يقول السني: ما حكم القائل لفظي بالقرآن مخلوق:

الجواب: كافر

يقول السني: ما حكم من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق:

الجواب: مبتدع

يقول السني: إذا القائل القرآن غير مخلوق سني، والقائل لفظي بالقرآن غير مخلوق مبتدع.

فلو كان الأول هو نفس الثاني من كل وجه فما وجه تبديعه؟

وإن كان اللفظ نفس القرآن من كل وجه، فما حكم الواقف فيه مثلكم ؟

كافر.

هذا لازم مذهبكم فالتزموه أو اتركوا الملزوم.

وإن قلت السلف قالوا أنها بدعة لسد الذريعة، فلماذا لم يسدوا الذريعة في مسألة خلق القرأن أيضًا إذ المعنى واحد عندكم والمسألتين من إحداث الجهمية! والقول في هذه كالقول في هذه.

وإلا فقد بيننا لكم أن السلف فرقوا بين العمل الذي يقع عليه الثواب ويأتي بصورة، والقرآن الذي لا جسم له ولا صورة، وهو صفة قامت بذات الله غير بائنة منه رغم أنفكم كما هو مصرح في أصول السنة للإمام أحمد وكما قاله الدارمي ونقلناه لكم في مقالات سابقة.

فيصير الأمر كما هو معقول عند أي مسلم بفطرته، أنك تقول كلام الله الغير مخلوق بكلامك المخلوق، وبصوتك المخلوق، مع كونه كلام الله بحرفه وصوته غير مخلوق، قاله في السماء وسمعه جبريل كما شرحنا في مقال سابق كيف أن العلم يطابق الواقع والكلام يطابق العلم والكتابة تطابق الكلام.

وأنا أقولها لكم بصدق، لا تتأولوا كلامي على أفهامكم لأن كل حرف في هذا المقال فصلته وشرحته في مقال سابق فإنكم والله ما عرضتم شيء على أفهامكم إلا أتيتم بالمصائب وإن فضيحتكم صارت بجلاجل كما يقال بعد أن قلتم أن صفة الله تحترق وتبين وتفنى وخالفتم صريح كلام السلف وصرتم أشر من المعطلة والعياذ بالله، بل وأثبتم صفة جديدة لله إسمها المصحف! : )

والطامة الثانية عندكم، هي تكفيركم لكل من قال بخلق الإيمان، ونعم القائل بخلق الإيمان من الجهمية واللفظية والكرابيسية هو كافر، لأن الإيمان عند الجهمية تعريفه غير أهل السنة، وعند الكرابيسي فكل شيء على الحركة والفعل (أفعال العباد) يصير مخلوقًأ كله حتى القرآن، فهو تابع جهم ولذلك قال الإمام أحمد أن كلامه "عين" كلام جهم ولم يكن كاذبًا عليه.

أما نحن أهل السنة فقد رد أسلافنا الذين انتسبتم لهم زورًا على القدرية بأن أفعال العباد شرها وخيرها مخلوقة مقدرة كما نقل الإمام محمد بن نصر والبخاري وشيخهم الفوقاني مجاهد:

قال الطبري رحمه الله :

" واختلف في معنى (خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) فقال بعضهم : عنى به : ومن كلّ شيء خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة ، والهدى والضلالة ، ونحو ذلك .

قال مجاهد : الكفر والإيمان ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلالة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والإنس والجنّ .

وقال آخرون : عنى بالزوجين : الذكر والأنثى .

وكذلك قول الإمام الدارمي:

فكفروا مجاهد إذا وقولوا عنه أنه من "الكرابيسية الجدد" يا حلولية! سبحان الله كم أنتم مضحكين والله.

وللمعلومية هؤلاء عددهم قليل وكثير منهم لديه 5 حسابات بأسماء مستعارة على أساس الغربة وكذا وحرب الطواغيت وهم أصلًا مكفرين أغلب المسلمين وأغلب علماء أهل السنة.

وإني والله لا أسامح كل من كفرني بظلم لأنني اعتقدت عقيدة السلف وموعدنا يوم القيامة أمام رب كبير نكلمه بلا ترجمان وهو العدل شديد العقاب سبحانه.

الله المستعان، هذا والله أعلم.

الحاشية ------

(1) (ولا يتحذلق أحدهم بشبهة المغايرة التي تعلمها من الجهمية فيسألني هل القرآن هو نفس القراءة أم غيرها، فإن قلت غيرها فقد قلت أن القراءة لا تتضمن قران وقلت بخلق الحرف العربي وإن قلت نفسها فقد ثبت أنها غير مخلوقة، فإن المغايرة لا يشترط أن تكون من كل وجه حتى تثبت، فهل يدك أنت أم غيرك؟ لا هذا ولا هذا إنما هي منك ويصح لغة أن يقال يد فلان ولا يقال فلان ويقصد به اليد، فإذا هناك نوع مغايرة بين الكل والجزء وبين كل مكون من أجزاء لها أحكام مختلفة تشترك في اعتبار وتختلف في اعتبار ويقوم أحدهم بالآخر كقيام الصفة بالموصوف مثلًا مع أن الصفة ليست هي الموصوف من كل وجه وليست غيره من كل وجه)

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق