مناقشة نموذج من نماذج التمييع العقدي

15 وقت القراءة


 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله وآل بيته وأصحابه الطيبين الطاهرين والتابعين ومن تبعهم بإحسان من الفرقة الناجية إلى يوم الدين.

أما بعد:

أبدأ كلامي بالتعليق على حصل من ردة فعل على مقالي في السابق، فإن من الملاحظ في السّاحة كذلك الانحياز إلى المشهور لا إلى الدليل، وحمل كلام المشهور بطريقة ساذجة على ما هو الواضح أنه غير ظاهر من السياق، بل إن السياق يفيد بخلافه ولو ثبت ما يناقض ذلك في موضع آخر مختلف.

فالمسألة ليست مسألة خصوص وعموم وأن مثل هؤلاء الكُتّاب يذكرون ما يوضح كلامهم في موضع آخر، فإنه يذكر مثلًا تعميم في موضع ويذكر في نفس الموضع أنه يدخل فيه من باب المثال على التعميم مسألة هو نفسه أخرجها بعينها من التعميم في موضع آخر!، فهذا واضح أنه تناقض لا يمكن الاعتذار له إلا من خلال توضيح التراجع عنه، ثم يأتي أحد طلابه ليفسر كلامه تفسير اعتذاري فهلّا يحيل له الكاتب لعل هذا الطالب يكون كلامه أوضح من كلام شيخه! لا تقولوا شيوخكم ما ليس في كلامهم أو تعيدوا صياغته بما يغير الكلام نفسه للاعتذار له فهذه طريقة غير محترمة!

ليس مطلق الاعتذار بحمل المجمل على المفصل ينفع فإن القرائن قد تفيد أن الكاتب يريد فعلًا التعميم المطلق غير المخصص في موضع وفي موضع آخر يأتي ويخصص فهذا واضح أنه تراجع أو نسيان يجب أن ينبه عليه

 أساسًا لو كان كلامه واضحًا بنفسه وهو يجب أن يكون كذلك بما أنه موجه للمبتدئ غير المضطر أساسًا أن يحمل كلامك بعضه على بعض من خلال قراءة كل كتبه والربط بينها! فكلامه ليس كالقرآن والسنة!

القصة صارت أشبه بالمجاز العقلي عند الصوفية والتأويل عند المتكلمين وحملهم لكلام أئمتهم على معنى غير الظاهر من السياق! 

ويا ليت من أغاظه الجزء الأول من المقال ممن يغيظه الحق في مقابل الرجال يحمل كلامي أنا كما حمل كلام شيخه! طالما أن مبدأه إحسان الظن بالمسلمين هكذا بلا شرط ولا قيد، فلماذا يتهمني بأنني أردت إسقاط الشيخ "أحمد السيد" والتدليس عليه؟

ولست في مقام الدفاع عن نفسي فهذا لا يليق بمقال كتب نصيحة لله ورسوله، وإلا فقد فعلت ذلك في موضع آخر، إنما أرنو لقلب مقدماتكم عليكم.

شاهدت مقطعًا آخر للشيخ أحمد السيد هدانا الله وإياه يتحدث حول قضية الأسماء والصفات وحجمها وقد أفردت هذا المقال للتعليق عليه لبيان وجه الإشكال عند بعض من في الساحة في تصور موطن النقاش والخلاف مع الجهمية.

قال الشيخ أحمد غفر الله له:

" فينبغي أن يؤطر النقاش في هذه الزاوية، فلما ينحصر الإنسان في هذه الزاوية في نقاش مسألة النزول مثلًا: 

أنت أفنيت عمرك في نقاش مسألة النزول، هل كنت تستثمر هذا الوقت فعلا في التعبد لله سبحانه وتعالى؟ المسألة إيمانية فقط؟ هل هذه الثمرة؟ هو إيماني لكن ليس من باب أنه فائدة لطيفة 

هذا هو تعريف باب الأسماء والصفات كلهّ في الدين، النقاش مع من لديه إشكال في مسألة الأسماء والصفات ينبغي ألا يأخذ أكثر من حجمه، أن تأخذ قضية النقاش تصبح هي القضية المركزية 

"القضية المركزية هي التعبد والعلم بالله والمعرفة به"

مثل مثلًا إثبات وجود الله، هي مقدمة، ليست هي الغاية، إبليس يثبت وجود الله

النقاش مع المخالف في قضية اثبات وجود الله ينبغي أن يكون نقاشًا مؤقتًا محدودًا، نقاشا حتى نصل إلى النتيجة النهائية وهي عبادة الله والتوجه له."

انتهى كلامه

وأكرر: إني والله لأكره التعقب على كلامك، ولكن الحق أحب والأمر في الله سبحانه وتعالى ونحن لسنا كالجهمية نفرق بين الذات والصفات!

ما الفائدة التعبدية الإيمانية من حديث النزول؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر. متفق على صحته.

ومن المعلوم أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وقولنا هنا هو الإيمان بهذا الحديث على ظاهره من السياق كما فهمه سلف الأمة الأعلام الذين وثقنا بهم بنقل الدين كله لنا والذي فضلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على باقي الامة، نقلوا لنا الدين مع فهمه.

واعتقادنا هنا أن الله ينزل كما أخبر عن نفسه لا نرد قول رسوله لأجل فلسفة جعلناها هي المركز وتمحورنا حولها وأولنا الدين كشيء ثانوي ليكون تبع لها بانهزام ثقافي غير مبرر إلا بالهوى والله المستعان.

وعملنا هنا هو التعبد الدعاء والاستغفار وغيرها من أعمال اللسان والقلوب والجوارح في ذاك الوقت المبارك، فبأي شيء قصرت مفهوم العبادة على الدعاء والاستغفار؟ هل هذا فقط ما تعبدنا الله فيه بالحديث؟ أليس في تصديق كل ما جاء به الحديث من عبادات واعتقادات هذا من تصديق الرسول وهو أهم قضية في الدين كله ومدار الدين كله عليها!، فقضيتنا ليست فقط في إثبات صفة لله ولو كانت قضيتنا هذه وحدها لكفت والله فهذا الرب سبحانه بجلاله! وهذه صفات كماله الذي أخبرنا عنها حتى نتعبده بمقتضاها هي كما هو في حكمته سبحانه وعلمه أن العمل بمقتضى الإقرار بها هو أكمل وجه لعبادته كما هو لائق به سبحانه، لو كان يريد منا فقط التعبد باللسان والجوارح دون اثبات صفة النزول لما كان بدأ حديثه بها، أفنؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض!، ولأجل ماذا؟ لأجل جعلنا الفلسفة الآرسطية وكلام أفلاطون وآرسطو وزبالات الفلاسفة الوثنيين! نقدمها على كلام خير البرية محمد بن عبد الله خير من وطئت قدمه الثرى! يخبر عن ربه سبحانه من فوق سبع سماوات بكلام أوحاه الله إليه بنفسه رحمه وهدى للعالمين!، والله لو لم تكن هذه أرقى وأنفع وأثبت المعارف في الوجود كله فلا علم ولا معرفة ولا عقل بعدها إذًا!

فالقضية كما ترى هي محاولة إنزال الدين من المركز والمصدر الأعلى للتقلي والمعرفة عن الله سبحانه إلى شيء ثانوي تابع ظاهره الكفر!

فهلا رددتم عليهم بارك الله فيكم كما تردون على من يفعل ذلك من العلمانيين والليبراليين وجماعة عدنان إبراهيم وشحرور وغيرهم في تحريفاتهم للدين!

أليس مهمة الداعية كذلك أن يحافظ على الدين ضد المبطلين والمبتدعة أصحاب البدع المكفرة الجهمية الذي شدد عليهم السلف أكثر مما شددوا على أكثر من أي فرقة أخرى؟! أم أن كلامهم ما عاد مناسبًا لهذا العصر مثالًا، أو أن أولوياتنا أهم من أولوياتهم!

يا شيخ بارك الله فيك هي نصيحة لوجه الله، الإلحاد واحد وصوره كثيرة!، قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون

قيل لـلإمام ابن المبارك رحمه الله ورضي عنه وحشرنا معه في عليين: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية] - ص11 - كتاب شرح حديث الافتراق - حكم الجهمية عند السلف

قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

ولقد تقلد كفرهم خمسون ... في عشر من العلماء في البلدان

وقد نقل هذا اللالكائي أيضاً، وهذا لا يعني كثيراً، إنما الذي يهم: أن المراد بكلمة التجهم عند السلف: هو عدم الإثبات على التحقيق لصفات الله؛ فصاروا يسمون كل من قصر في هذا التحقيق للإثبات على طريقتهم على قدر من التأويل أو التعطيل جهمياً، هذا هو التجهم العام، وفيه يدخل المعتزلة وغير المعتزلة ممن ينفي الصفات؛ ولهذا سموا الفتنة التي وقعت للإمام أحمد والأئمة زمن المأمون العباسي: فتنة الإمام أحمد مع الجهمية.

مع أن أساطين المناظرة إذ ذاك كانوا معتزلة

وقال أيوب السختياني: إنما مدار القوم على أن يقولوا ليس في السماء شيء. أخرجه الذهبي في العلو وقال: هذا إسناد كالشمس وضوحاً وكالأسطوانة ثبوتاً عن سيد أهل البصرة وعالمهم.

فالسلف ما كانوا يتصورون أن يروا كفرًا أكثر من هذا!، تقشعر أبدانهم أن مدار كلام القوم في مئاله إنكار العلو!

ونحن اليوم نقول لا يجب أن نعطي قضية الصفات فوق حجمها!، من نعطيه حجمه إذًا، ولماذا تفترضون التزاحم أساسًا، ألم يكن الإمام الواحد من أئمة أهل السنة الأعلام جزاهم الله عنا كل خير يردون على أهل الباطل كلّهم لا يخافون في الله لومة لائم ولا يرون في ذلك تزاحمًا أبدًا!، والامام ابن تيمية وابن القيم وابن الوهاب خير مثال وهم أعلام دعوتنا كما هو معلوم

فقول الجهمية عندنا ليس أقل أبدًا من أقوال العلمانيين والنسويات والليبراليين وعامة الإنسانويين.

ولا نقصر مفهوم العبادة فقط على مفهوم أعمال الجوارح وليس تعبدنا دروشة فارغة من المعنى والمضمون الإيماني الذي هي أساسًا فرع عنه، أعمال الجوارح فرع عن الإيمان بالله وليس أن اثبات وجود الله هو مجرد وسيلة والغاية العبادة فقط، وهذه قسمة بها حصر مخادع على الحقيقة فإثبات وجود الله غاية ووسيلة وكذلك عبادته غاية ووسيلة فالإيمان قول وعمل واعتقاد والجهمية يخالفونا على الأقل في القول والاعتقاد! مع أنه من المعلوم في الترتيب العقلي أن القول والعمل فرعًا عن الإيمان القلبي وكلهم إيمان وإلا كان نفاقًا كما جاء في الحديث:

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». متفق عليه

فهل صلاح القلب يكون بغير الإيمان بالله بأسمائه وصفاته المتضمنة فيها والمخبر عنها؟!، وهل الله اسمًا فارغًا عن المضمون! أم أننا نعرفه بصفاته سبحانه؟! ومن يعرفنا عن صفاته أكثر من نفسه!، أم أنكم تعبدون ذات الله مجردة عن الصفات! بأي شيء جعلتم الأهمية للذات المجردة بينما الصفات دون ذلك!، إني والله أحار بهذا المنهج الحركي كيف يقلل من القضايا التي هي من حقوق الله المحضة التي ليس فيها مظاهر تقدم وتحضر دنيوي فليست هي كالعلمانية أو النسوية أو غيرها، فيجعلون قضية الأسماء والصفات لأنه لا يترتب عليها أعمال جوارح فإنها أقل أهمية من غيرها!، فنحن أساسًا لا نوافقكم أنها لا يترتب عليها أعمال فإنها مما يصلح القلوب وينيره بالتصديق والتسليم دون انهزام الجهمية إلى فلسفات الوثنيين وعقولهم العفنة، فكما جاء بالحديث أن صلاح القلب يترتب عليه صلاح القول والعمل، وقد فصل في ذلك أئمتنا في حديثهم عن التفكر في صفات الله وآثارها وتعبده بها وكما هو ظاهر حديث النزول نفسه الذي جعلت أنت القضية المركز فيه هي أن تدعو الله، أفلا تدعوه وأنت تعتقد أنه لا يسمع ولا ينزل؟! هذا لا يكون، إذا قضية اثبات الصفات متلازمة تمامًا مع أفعالك تجاهها!

وأما قولك إن النقاش مع المخالف حول إثبات وجود الله مؤقتًا محدودًا حتى يحصل الإقرار والتعبد بمقتضى الإقرار وتصديق الرسول 

قلت فإن اثبات وجود الله الذي هو أساسًا ثابتًا بالفطر والواجب عليها الإيمان به بالمفهوم السلفي طبعًا لا مفهوم أهل الديانات الأخرى أو الفلسفات الوثنية هو طبعًا مؤقت كأي نقاش آخر فيه حق وباطل، فإذا رجع صاحب الباطل عن باطله فبأي شيء يستمر النقاش إذاً، ثم عليك التفريق في مركزية القضية في نفسها وبين الترتيب الجدلي لها، فطبعًا في الترتيب الجدلي يكون غايتك النهائية أن تصل بالمخالف إلى الإقرار بالله ثم عبادته، ولكن قضية الإقرار بوجود الله وعبادته يتلازمان لا تغني واحدة منهم عن الأخرى بموجب أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وأصل الإيمان أنه صلاح القلب وبه يحصل صلاح الجسد وهذا كله يسمى إيمان وهو يزيد وينقص وزيادته ونقصانه لا تكون بالعمل دون القلب فإن كان الإيمان بالقلب قويّ طاغ كان ذلك ظاهرًا على الأقوال والأفعال كما هو مقتضى ضرورة العقل بلا شك.

لكن أي إيمان تسميه ذاك الإيمان الذي ينزل الدين كله أساسًا من مركزه ويصبح دور كله في فلك النظرية الأكاديمية الفلسفية المتبعة، تأول أهم قضية فيه وفق تلك الفلسفة ومن ثم يصبح التعبد بالجوارح مجرد مظاهر تعبدية يوجب البعض أساسًا على كل مكلف بها أن ينظر في فلسفاتهم رجاء أن يصل بالنهاية إلى ما بدأ به الأنبياء وأتباعهم!

هذا هو خطر المنهج الجهمي الذي لا زلنا نحاربه في كل عصر ومصر فتأمل وتدبر يا شيخ، فليس الكلام بالإجمال لائقًا بقضية مثل هذه.

خلافنا مع الجهمية ليس في ثبوت صفة معينة في النص أو خلاف لغوي من حيث الأصل، إنما خلاف بين أتباع الرسل وأتباع الفلاسفة بشتى طوائفهم، فاليوم لو جاء ليبرالي أو جاءت نسوية أو ما إلى ذلك تحرف بصفات الله وتعطل وتزيد وتنقص بها بما رأت أنه مقتضى نظريتها الفلسفية لأسميناها جهمية وعاملناها معاملتهم ولا نبالي، ونحن خلف لسلف عظيم تعبدنا الله بالسير على طريقتهم.

قال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ

قال إسحاق بن منصور: قلت للإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ينزل ربنا كل ليلة) الحديث، فقال له الإمام أحمد وكان معه إسحاق بن راهوية: الحديث صحيح، وزاد إسحاق رحمه الله تعالى: لا يدع هذا الحديث إلا مبتدع، أي: لا ينكره ولا ينفيه إلا رجل مبتدع ليس منقاداً لكتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

ونقل عن يحيى بن معين رحمه الله تعالى كما رواه اللالكائي، يقول يحيى بن معين رحمه الله ورضي عنه: إذا سمعت الجهمي يقول: أنا أكفر برب ينزل، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، ولا ننفي هذه إطلاقاً أبداً.

ومما ورد ما ذكره الإمام أحمد في كتاب السنة بسنده قال: قدم علينا شريك، فسألته عن الحديث: (إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان) فقلنا له: إن قوماً ينكرون هذه الأحاديث عن الرب، قال: فما يقولون؟ قال: يطعنون فيها، قال: إن الذين جاءونا بهذه الأحاديث هم الذين جاءونا بالقرآن وجاءونا بالسنة، وجاءونا بالصلاة، وجاءونا بالحج، وجاءونا بالصيام وغيره، فما يعرف الله إلا بهذه الأحاديث.

ص9 - كتاب شرح لامية ابن تيمية - مناظرات في مسألة النزول

فكما ترى فالقضية تعظيم لكلام الله وتصديق رسوله وانقياد له، كما وضح ذلك الإمام العلم إسحاق رحمه الله ورضي عنه وحشرنا معه.

وهؤلاء العظماء عندما أقاموا الدنيا وما أقعدوها على قضية خلق القرآن وحديث النزول ومسألة العلو كانوا أشد منا عملًا وتعبدًا بمقتضى ذلك، فلا نزايد ونقول أن من أفنى حياته في نقاش هذه المسائل والرد على المخالفين لا بد أن يزاحم ذلك عمله بالجوارح بمقتضاها فإن عمله بالدعوة كذلك مأجور عليه، أليس دفاعًا عن كلام الله ورسوله!، وأن من بدأ النقاش سلفنا وليس نحن ونحن خلفًا لذاك السلف ونعم السلف سلفنا وبئس السلف سلف الجهمية الأشرار.

ومما ذكر كذلك قصة وهي بسند طويل، ولعلها كلها تدور على إسحاق بن راهوية رحمه الله، يقول: اجتمعت الجهمية إلى عبد الله بن طاهر في مجلس، فقالوا: أيها الأمير! إنك تقدم إسحاق بن راهوية وتكرمه وتعظمه وهو كافر، يزعم أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، ويخلو منه العرش، فغضب عبد الله بن طاهر على إسحاق بن راهوية أشد الغضب يقول: وبعث إليَّ، ثم دخلت عليه في مجلسه وسلمت قال: فلم يرد علي عبد الله بن طاهر متأثراً بقول الجهمية، وكان من عادته إذا دخلت عليه أن يرد علي السلام، وأن يجلسني.

يقول: فما قال لي شيئاً أبداً، ثم رفع إلي رأسه مغضباً، وقال لي: ويلك يا إسحاق! ما يقول هؤلاء عنك؟ قلت: لا أدري ماذا قالوا عني، قال: تزعم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، وأنه يخلو من عرشه، قلت: أيها الأمير! لست أنا الذي قلته، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وروى بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع؟) الحديث، ثم قال عنهم: مرهم أيها الأمير أن يناظروني، فأنا على استعداد لهم

اسمع قول الإمام العلم إسحاق! (مرهم أيها الأمير أن يناظروني، فأنا على استعداد لهم)!

ما قال الأهم أننا كلنا نتعبد! هذا دين الله، كان العلماء يموتون لأجل قولهم إن القران كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فأين هذا من أصحاب المنهج الحركي المناري الإنسانوي (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا عليه)، ألم يعلم السلف أن ما وصل إليه الجهمية كان بسبب مناظرتهم للملاحدة! فلماذا لم يقولوا كان لهم جهود في مناظرة الملاحدة والعقليات وما إلى ذلك! ولم يعذروهم بصلاح نيتهم، ما رفعوا رأسًا بهذا أبدًا إنما سفهوه أشد التسفيه إن كان سيفتح الباب لتحريف الدين حتى يروق للمخالف!

قال الشيخ أحمد السيد: القضية المركزية هي التعبد والعلم بالله والمعرفة به

قلت: فإذا كانت القضية المركزية مركبة عندك من التعبد والمعرفة، فإنك تناقضت يا شيخ غفر الله لك، فإنك قلت في السابق:

"أنت أفنيت عمرك في نقاش مسألة النزول، هل كنت تستثمر هذا الوقت فعلا في التعبد لله سبحانه وتعالى؟ المسألة إيمانية فقط؟ هل هذه الثمرة؟ هو إيماني لكن ليس من باب أنه فائدة لطيفة 

هذا هو تعريف باب الأسماء والصفات كلهّ في الدين، النقاش مع من لديه إشكال في مسألة الأسماء والصفات ينبغي ألا يأخذ أكثر من حجمه، أن تأخذ قضية النقاش تصبح هي القضية المركزية"

فكيف نفعل وأنت تقول إن قضية "معرفة الله" وتعبده هي "القضية المركزية"، وفي موضع آخر من كلامك نفسه تقول ما ينبغي أن تكون قضية "النقاش" في اثبات الله مركزية وكذلك تقول ذلك في صفات الله التي هي أيضا من معرفة الله!، فإن قلت أنا اتحدث عن النقاش فقط، قلت وأنت أيضًا قلت أن النقاش مع المخالف لأجل "تعريفه بالله لعبادته هو الأهم" في قولك:

"مثل مثلًا إثبات وجود الله، هي مقدمة، ليست هي الغاية، إبليس يثبت وجود الله

النقاش مع المخالف في قضية اثبات وجود الله ينبغي أن يكون نقاشًا مؤقتًا محدودًا، نقاشا حتى نصل إلى النتيجة النهائية وهي عبادة الله."

ففي موضع جعلت الغاية الأهم هي العبادة بالجوارح والألسن وبعض أعمال القلوب النابعة عن التصديق به سبحانه كما أخبرنا عن نفسه كالدعاء والاستغفار الوارد في حديث النزول، وجعلت عبادة الإيمان بالله باثبات وجوده بصفاته اللائقة به هذه وسيلة للعبادة بالقول والجارح، أليسوا كلاهما هما القضية المركز عندك سواء في حياتنا أو حتى في نقاشنا مع المخالف! في قولك:

"القضية المركزية هي التعبد والعلم بالله والمعرفة به"

ثم في موضع آخر قلت ينبغي أن تكون مؤقتة وألا تعطى أكبر من حجمها وأن اثبات عبودية الله والتوجه له هو الأساس.

ومن وجوه التناقض أنك إن فرقت بين النقاش في مسألة حديث النزول وقبول كل مافيه والتشنيع على المخالف والمحرف والمعطل، وبين الرد على النسوية والعلمانية والإلحاد  الذين يعطلون الشرائع والاحاديث والسنة سواء بالكلية أو بعضها، فما الفرق بين من أنكرت شيء من أحكام المراة الدنيوية وبين من أنكر صفة من صفات الله إلا إن كان الفارق على التحقيق أن الثاني أشنع! 

أنت شخصّيا تفني حياتك ليلًا نهارًا في تلقينك لتلاميذك حول كيفية الرد على المخالف وأنت أحد المسؤولين عن "صناعة المحاور"، فلو كانت مسألة النقاش في الله برمتها غير مهمة فما وجه إفنائك لعمرك بها إذًا وكتابتك لهذه الكتب وصناعة المحاور "الذي يصنع طلابًا لتحاور وتناقش الملاحدة وأذيالهم"؟

فإن قلت هؤلاء منكرين لوجوده واقناعهم به ابتداء مهم للبناء على هذه المقدمة، قلنا لك لا وجود بلا صفات بل حتى إن الوجود نفسه صفة والله هو الموصوف بمعناها، بالنهاية أنت مضطر للنقاش بالعقيدة وأعلى مسائلها هو معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته من جهة الرسول.

وقلنا أيضًا أن البناء على هذه المقدمة يجب أن يكون محكوم بما شاء الله لك أن تبنيه بما يوافق الشرع، فأي موافقة للشارع هذه والشخص أصلًا ينازعه في تأويل الشرع وفق فلسفة معينة يقدمها على الشرع ابتداء.

فالتناقض في ذلك والله واضح إلا لمكابر، فلا يأتيني أحد يحاول تأويل كلام الشيء فمثل هذا الذي يتأول خطأ شيخه دفاعًا عن شخصه بدلًا من نصحه، يقدم الأشخاص على الأدلة والحقائق لا يرجى له الرجوع أصلًا والله أعلم وهذا والله لا حاجة لنا في الرد عليه، وبذلك أعلن أنني لن ألتفت لأي شخص يكتب مقالًا في الرد عليّ عملًا بالأثر: قال الإمام ابن سيرين رحمه الله: " لا تجادل إلا رجلا إن كلمته رجوتَ أن يرجع

واغرقوا أنتم في جدالاتكم التي لا طائل وراها إلى ما شاء الله فإنا قوم لا نضيع اوقاتنا بمثل هذا، وكان الأفضل أن لا تجادلوني دفاعًا عن مخلوق بل تذهب وترد على الجهمية دفاعًا عن الخالق سبحانه وتعالى من افتراءاتهم وتخرصاتهم فإن جدالكم معي ليس أهم من مسألة أسماء الله وصفاته لو كنتم تعقلون!

نسأل الله لنا ولكم الهداية، وما قصدنا أبدًا من هذه الردود إسقاط الرموز وإلجائكم للتوحش كما تفعلون أنتم مع الشيخ عبد الله الخليفي باتهامه بالغلو، وأما العبد الفقير المتكلم فلا يقدر أصلًا على أن يسقط من بشهرة أحمد السيد، إنما أفعل ذلك نصيحة لله وصيانة لعقول طلاب العلم وعقائدهم ومواقفهم من السلف وتصحيحًا للمنهج الدعوي إصلاحًا لخلل واضح في الساحة ولوثة إنسانوية مبالغة في عذر المخالف وإنزال قضية الإيمان بأسماء الله وصفاته من اعتبارها من أهم القضايا في الدعوة والدفاع إلى قضية ثانوية لأجل بعض أسماء الجهمية الذين تمتحنوننا بهم ليلًا ونهارًا.

يكفي البيان بهذا القدر ونسأل الله أن يكتب به النفع.

كتبه: الغيث الشامي (أبو عبادة) ستر الله عيوبه.

19\12\2021

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق