نقل الشيخ ابن بطة العكبري رحمه الله ورضي عنه (304 هـ - 387 هـ) في كتابه الإبانة الكبرى:
657 - حدثنا أبو محمد السكري , قال: حدثنا أبو يعلى المنقري , قال: سمعت الأصمعي , قال: سمعت أعرابيا , يقول: «من لاحا الرجال , وماراهم قلت مروءته , وهانت كرامته , ومن أكثر من شيء عرف به»
ثم علق هذا التعليق النفيس:
يقول الشيخ: فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة , والخلاف , والمماحلة , والأهواء المختلفة , والآراء المخترعة من شرائع النبلاء , ولا من أخلاق العقلاء , ولا من مذاهب أهل المروءة , ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة , ولا من سير السلف , ولا من شيمة المرضيين من الخلف , وإنما هو لهو يتعلم , ودراية يتفكه بها , ولذة يستراح إليها , ومهارشة العقول , وتذريب اللسان بمحق الأديان , وضراوة على التغالب , واستمتاع بظهور حجة المخاصم , وقصد إلى قهر المناظر , والمغالطة في القياس , وبهت في المقاولة , وتكذيب الآثار , وتسفيه الأحلام الأبرار , ومكابرة لنص التنزيل , وتهاون بما قاله الرسول , ونقض لعقدة الإجماع , وتشتيت الألفة , وتفريق لأهل الملة , -[532]- وشكوك تدخل على الأمة , وضراوة السلاطة , وتوغير للقلوب , وتوليد للشحناء في النفوس عصمنا الله وإياكم من ذلك , وأعاذنا من مجالسة أهله"
وهنا لنا عدة وقفات:
1- قوله: ولا من أخلاق العقلاء، فالعقل عند السلف هو اعتقاد الأظهر بالدليل من الكتاب والسنة وفعل الأصلح بالدليل من الكتاب والسنة، فهذا هو العقل ومقتضاه، وليس ما يسمى بـ "العقليات"، التي هي مراء مع السوفسطائية حتى يتشوش الحق عند الطرفين ويعذر بعضهم بعضًا بخفاء أوضح المسائل بلا إمكان لرفعه أبدًا لكونهم معتادين على الجدل الذي لا ينتهي إلى شيء ولا تفهم حكمته لكثرة مافيه من إجمال وتنطع وتعمق مذموم وقرمطة على النصوص مع التسمح في ذلك، فيدخل الرجل إلى هذا يريد الدفاع عن الحق ويخرج ليس معه لا حق ولا عقل ولا دين.
وبأمثال هذه المجالس يبيض في عقولهم الشيطان ويفرخ فيخرج لهم من المسائل والشكوك ما الله به عليم ويخترعون أجوبة جديدة وبدع لدفعها ما كانت تخطر على بال إمام سابق لهم، بل ولا من طريقتهم دفعها بالاستعاذة وردها إلى المحكم بل هم مستمرين على الجدل.
2 - قوله (ولا من مذاهب أهل المروءة)، فهي تذهب مروءة الرجل واحترامه لعقله ولدينه وتجعله مائعًا لا يستقبح قبيحًا في العقائد ولا يستحسن حسنًا ولا يرى في الفطرة والبداهة حجة لأنه اعتاد على الغموض والتطويل وعلى جحد الخصوم للواضحات والتسليم لهم بذلك، ولا يجالسه هؤلاء الخصوم إلا بأن يعتذر لهم وينزل عند كثير من مطالبهم ويوقرهم حتى تذهب هيبة الحق من قلبه لمصلحته بينهم.
3 - قوله: ( ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة , ولا من سير السلف , ولا من شيمة المرضيين من الخلف ) وقوله: ( وتكذيب الآثار , وتسفيه الأحلام الأبرار , ومكابرة لنص التنزيل , وتهاون بما قاله الرسول , ونقض لعقدة الإجماع )
فكثير من قضايا الكلام والفلسفة الإلهية وما يتعلق بها من قضايا معرفية "ابستمولوجية" لم يتطرق لها أحد من السلف ولا عرفوها بل وبعضها لم يتطرق لها أحد قبل هذا العصر أصلًا، وهي عند من وضعوها أمور أساسية أصلية لا يصح عقل العاقل قبل النظر فيها "على مبدأ من لم يتمنطق فلا ثقة في علومه" لكن بصيغة عصرية من لم يحدد لنفسه نظرية معرفية ويدفع عنها الاعتراضات الفلسفية كلها فلا ثقة في علومه ولم يكن قد أدى للمعرفة حقها اللازم!
ويدخل في هذا تنطع وتعمق شديد فتجده لا يناقش في مسائل العقيدة إلا وأدخل مسائل التسلسل بل ربما اشترط عليك العلم بدقائق الرياضيات حتى أني وجدت من عاب على مشايخ السلفية المعاصرة كلامهم في العقيدة وهم لم يدرسوا "الهندسة اللا إقليدية" ولا يرفع بالدليل الشرعي رأسًا ولا يراه يحق حقّا ويبطل باطلًا ولا يقيم حجة على أحد مهما بلغ أن جمعت من الأدلة الشرعية المرضية عند أهل السنة فكلها ليست بشيء أبدًا، وهم يعلمون أن أئمة السلف ما أقاموا من الأدلة ما أقاموه واشتغلوا بدفع كل سفسطة وشنعة ولا اشتغلوا بمثل هذا أبدًا ولا جادلوا أحد بهذه الطريقة وبيننا وبينكم حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها والصحابة الذين فتحوا الدنيا وقابلوا من كهنة الأديان الأخرى من قابلوا ما فعل واحد منهم ما تفعلون بل وحذروا من كثير منه وأجازوا بعضه لضرورة قصوى لأهل العلم هؤلاء لا يقيمون لها وزنًا والضرورة عندهم متوفرة في كل وقت وحال ومسألة، وإن لم تجاريهم على طريقتهم سفهوا عقلك أشد التسفيه
فهؤلاء طاعنين بعصر الصحابة بل وبعقول الأنبياء لا محالة بلسان الحال قبل المقال، لأنهم ما عرفوا من هذا شيء ولا هو ضروري عندهم ليعتقد العبد اعتقادا صحيحًا مسوغًا عقلا وشرعًا دون حتى أن يكون مقلدًا ولا ينقص هذا من عقله مثقال ذرة، بل من يشقشق ويفسفط في القضايا الواضحة هو من حقه أن يسفه عقله!
أما هذه القضايا فهي ليست ضرورية للعلماء أصلًا بل قصارى الأمر في بعضها أن يكون فرضًا كفائيّا على بعضهم من باب التبرع للرد على الخصوم وإلا ففي الكتاب والسنة الكفاية أصلًا، وما أحوجنا الله لأي من ذلك حتى يصح لنا اعتقاد أو يصح لنا دفع للباطل بالكتاب والسنة! وفوق هذا فكله تبع غير ضروري! فسبحان الله
فانظر في حال هؤلاء قبل مقالهم تجدهم بتنطعهم وتشقيقهم وعقدة نقصهم ولهثهم خلف المتكلمين ودخولهم جحر الضب ورائهم يسفهون عقول السلف والأئمة بعدهم ولا يرون في علماء الطريقة السلفية عالم يرفع به الرأس إلا شيخ الإسلام ابن تيمية! ولو أنه لم يولد لربما لن تجد واحدًا منهم سلفيّا!
ويختلفون في تأويل كلام شيخ الإسلام بما يوافق آرائهم أو كلام بعض الفلاسفة المعاصرين اختلافًا شديدًا يصل للسب والشتم والتحقير وبأسهم بينهم شديد على أتفه المسائل حتى أنك إذا خالفت شخصًا في قضية تتعلق بالرياضيات سبك وشتمك فبالله أهذا دين وورع ؟! أما تخافون الله؟!
ويدخلون على الطلبة الوساوس والشكوك ويفتحون عليهم أبوبًا كانوا في راحة منها ويعرضون لها صغار الطلبة قبل أي شيء حتى أنك تجده يجادل في دقائق المسائل الفلسفية وهو لا يحسن الصلاة ولا الطهارة ولا يضبط مسائل عقدية أهم.
فالطريقة هذه هي نفس ما دخل على المتكلمين وهو ما به تفترق الأمة وتدخل العداوة والبغضاء بين أهل الحق بمجموع ما ذكرناه من آفات، والله المستعان.
#الغيث_الشامي