مقدمة:
اللاوعي هو كل ما بطن في نفسك ولم يكن حاضرا في وعيك، سواء حضر إذا استدعيته (كتحكم عقلك بغير وعي منك في بعض الوظائف المعتادة التي تصدر عنك في إطار أعمال معينة كحركات يدك عند قيادة السيارة مثلا) أو تعذر عليك استخراجه إلا بجهد ومعالجة، كتتبع الميول والأهواء الخفية التي قد تحرك الواحد منا فيما يأتي وما يذر من حيث لا يشعر. ومع هذا فليس كل ما ينسبه النظار النفسانيون إلى العقل الباطن يصدقون فيه، لا سيما فرويد في زعمه وجود الدافع الجنسي العميق وراء جميع أعمال البشر وميولهم!
وهو ليس كيانا مطلق التغييب، وإنما هو نوازع قلبية وأنماط عصبية neurological patterns تحرك الإنسان مع قدرته من حيث الأصل على استخراجها واستكشافها إن أراد ذلك.. والعقل عند أهل السنة نشاط نفسي محله القلب بالأساس وله تعلق وثيق بالمخ والجهاز العصبي، وليس شيئا متعينا في الخارج أو عضوا خفيا في باطن الإنسان. فليس هو مطلق التغييب على المعنى الذي نطلقه على الروح مثلا، فانتبه
والعقل عملية منها ما يكون إراديا نظريا ومنها ما يكون فطريا ومنها ما يكون مضمرا داخل قراراتك الواعية سواء انتبهت له أو لم تنتبه، وهو عملية تشترك فيها مجموعة من الأعضاء منها القلب مثلا [1] والدماغ
أما العقل الباطن الذي تحدث عنه فرويد وغيره من النفسانيين، فهو كيان مطلق التغييب يتحكم بتصرفاتك دون أن تدري وبعض الدجاجلة يفترضون له قوات خارقة وربما ينزلون عليه بعض صفات الربوبية! وأنه متصف بالذكاء اللانهائي والتواصل مع العقل الكوني وقادر بتفكيره أن يقبل القدر رأسا على عقب والاتحاد مع الإله والخلق!
وسبحان الله كيف يظن الإنسان شيء كهذا في نفسه رغم أن الإسلام استطاع أن يحسم الجواب حول قدرات عقل شخص كهذا قبل ١٤٠٠ سنة بضربة بالسيف : )
فمثلا عندما يزعم الزاعم أن كل تصرفاتنا معللة بالبقاء، أو بالتكاثر، أو بالشهوات الجنسية، فأنت يمكنك أن تجد ضرورة في نفسك ما يبطل زعمه، لكنه سيكذب هذه الضرورة في مقابل نظريته في العقل الباطن التي يصبح من خلالها يعرفك أكثر من نفسك، وهذه النظريات اثباتها تجريبيا دونه خرط القتاد، بل التجربة تثبت ضدها كما ناقش ألفين بلانتينجا نظرية داوكنز في الميمز والجينات ومسألة تعليل كل سلوكيات الانسان بالتكاثر وضرب مثال الأم تريزا وغيرها ومثل هذا كثير من وجود الإيثار والشجاعة والزهد في الدنيا وحب الآخرة وطلب الشهادة وأن يكون تعليل تصرفاتك رضى الله سبحانه وتعالى وأنه هو ما تحصل به سعادتك الآجلة والعاجلة.
لكن المقصد توضيح الفرق بين العقل الباطن واللاوعي، فلا يصح إثبات الاثنين كما لا يصح نفي الاثنين، ولأن اللاوعي ثابت علميا بل وهو قريب من التجربة اليومية للإنسان، فاستغله البعض ليقرب لك قبول خرافات العقل الباطن كما فعلوا في مسألة الطاقة فلأننا درسنا في الفيزياء وجود طاقة حرارية وطاقة حركية وإلخ فقالوا اذا هناك طاقة إيجابية وطاقة سلبية وطاقة المكان! ألست درست قد فيزياء يا هذا!
وطبعا لا أحتاج أن أبين مافي هذا من تلبيس، إذ حتى في الفيزياء اختلف العلماء والنظار في حقيقة ما يسمى طاقة هل هو شيء متعين يؤثر ويتأثر (أي صورة من صور المادة) أم أنه صفة عرضية للمادة (حالة من حالات المادة) وهي كونها حارة أو كونها تتحرك أو إلخ، أم أن الحالة الحركيية تتكون من شيء يحل في المادة اسمه طاقة حركية وأثره على المادة وهو جعلها تتحرك.
فهذا حتى داخل إطار الفيزياء فالتفسير النظري لهذه الظواهر اختلف في وصفه فيما وراء المحسوس، فكيف بما اخترعتموه من أمور خرافية لا دليل عليها لا من حس ولا عقل ولا شرع هذا إن لم تدل هذه الطرق على نفيها أساسًا.
فمثل هذه النظريات هي دائرة بين عدم قابلية الإثبات وعدم قابلية الإبطال، فليس عليها حتى شبهة دليل يستلزم مدلوله، ومنها ما هي غير قابلة لأن تُعرف تجريبيا بطلانها اذ لا شيء يمكننا لمسه او الاستدلال عليه حتى يعرفنا ان النظرية صحيحة ام باطلة، هي نظرية ميتافيزيقية محضة مخالفة لأدلة التوحيد أساسا.
بل كارل بوبر نفسه الذي وضع معيار قابلية الإبطال في فلسفة العلم طبق هذا المعيار على نظرية فرويد وأبطلها به.
والكلام في هذا يطول ولنا لقاء آخر حوله إن شاء الله
---- حاشية ----
[ 1 ] القلب: مبدأ الإرادة ومنتهى الإدراكات، مع كوننا لم نكتشف تجريبيا بعد ذلك إنما علمناه من طريق الوحي المنزل، ولا نجزم بعد أننا أدركنا كامل السلسلة السببية الحاصلة بين الدماغ والقلب الروح وكل الأسباب التي بها تعمل عقولنا وعند تعطلها أو تعطل بعضها يتوقف ويغيب الوعي أو العقل أو الذاكرة، وليس لدينا سوى نماذج تفسيرية قاصرة تحاول الربط بين أنشطة الدماغ القابلة للرصد ببعض الأجهزة وبين الحالات الواعية التي يصفها الإنسان وتتزامن مع هذه الأنشطة الدماغية.
وحتى مواقف المتخصصين في ذلك تتباين بين الماديين والمثاليين، فمن المثاليين من هو ديكارتي يرى أن العقل جوهر غير متزمن قائم بنفسه لا داخل العالم ولا خارجه وبنفس الوقت حال بالجسد ومسؤول عن كل الأنشطة الواعية، ومن الماديين من ينكر وجود الروح تماما ولا يثبت سوى هذا الجسد المرصود وما يعرفه من عمليات بيوكيميائية تجري داخله، وموقف المسلمين يصح أن يصنف اصطلاحيا داخل إطار الموقف المادي إذ أنه يثبت أن الروح متعينة وه مادة لها طبائع معينة الله أعلم بحقيقتها وقابلة لأن تُرى فلها شكل تراه الملائكة ورب العالمين وتتحرك وتُسحب وغير ذلك.
حتى لا نستطرد، فنحن لم نجرب أن ننزع قلب أحدهم بالكلية ونبقيه حيا لنرى هل يكون عاقلا صحيح العقل أم لا، بل لا نفعل ذلك إلا ونكون قد وضعنا محل القلب شيئًا اصطناعيا يقوم بما يقوم به القلب حتى يبقى الإنسان حيا، ونحن كما ذكرنا لا ندري ما كيفية الوظيفة المعينة للقلب الذي في الصدر التي عليها يعتمد العقل في عمله وما موقعها في السلسلة السببية المغيبة تغييبا مطلقا أصلا التي بتمام عملها نجد أثرها وهو عمل غريزة العقل بشكل سليم.
ونحن لا نقبل أن نقسم وجود الإنسان إلى جسد وعقل بل إلى جسد وروح والإنسان هو الاثنين لا واحد منهم فانتبه، ولكن النفس التي يطلق عليها أنا والتي يتصور الإنسان أن ينزعها الله من جسده ويضعها في جسد آخر مثلا هذه لها علاقة بالروح التي لا تفنى عند فناء الجسد فهي هويته التي سيبعث بجسد آخر عليها.
ونرفض كذلك تكلف وضع أي نظرية فلسفية أو مادية تفسر ارتباط الجسد بالروح بحيث تخوض في هذه الكيفية الغيبية مطلقة التغييب بالقياس على ما نعرف من الكيفيات التي ترتبط بعها أعضاء البدن المعتادة بعضها ببعض بأنواع الروابط المختلفة.
#الغيث_الشامي